2024
Adsense
مقالات صحفية

تفاءل لتسعد

عبدالله بن حمدان الفارسي

ليس من العدل حين نظن بأن الآخرين يُفترض بهم جبراً بأن يكونوا مخلصين ومحبين لنا، وأيضاً من الظلم الاعتقاد بأن كل من حولنا هم أعداء، ولا يحبون الخير لنا، نحن كوننا بشر لا نملك القدرة، ولا الكفاءة المطلقة على سبر أغوار كل من حولنا ومن هم معنا، حتى ولو تمددت الأزمنة، وضاقت الأمكنة، وتوطدت العلاقة معهم، فلن نتمكن قطعاً من استشفاف واستنباط ما تكنّه أفئدتهم، وتحتويه قلوبهم وعقولهم، وحتى ما هو ظاهر لنا منهم، لسنا مؤهلين لإدراكه وتحليله بالمستوى الذي يمكن الإطلاق عليه بالكمال؛ لأن بعض الناس يُظهر عكس ما تختزنه سريرته، وبما أننا بقدراتنا التي هي أقل من خط التواضع لا نملك قراءة القادم، ولا استعادة الفائت، فمن الأفضل لنا التعايش والتكيّف مع الحاضر بما يفرضه علينا بنوع من التفاؤل والأمل، اللذان بهما نتمكن من تناسي ما مضى والتآلف مع الآني والاستعداد لما هو آتٍ من خلاصة الماضي والحاضر، وأيضاً علينا الأخذ بالنية الحسنة دون الإفراط فيها عندما نتعامل مع الآخرين، وكذلك التمادي في الحذر من بعض المواقف يفقد خاصية المودة ومعانيها.
يقيناً وحتماً ليس بجهودنا يتودد لنا الآخرون ويتقربون منّا، وليس بمظاهرنا نتوغل لقلوبهم أو نخرج منها، ولا بسلوكياتنا نكون مؤثرين على من حولنا، وهذا لا يعني بأن نكون من ذوي الفظاظة والغلاظة، قال تعالى: (فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ…) [آل عمران ١٥٩]. لينٌ ورقةٌ وتعاطفٌ علينا التحلي بها، هناك خفايا علمها عند الخالق العالم بالأسرار، وما تخفي القلوب، ولو كان القبول لدى قلوب الناس أمراً مكتسباً من سلوكياتنا ونابع من ممارساتنا لكان أولى بهذا القبول خير خلق الله نبينا وحبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام، (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ) [القلم ٤] ولمّا تعارضت رسالته الشريفة الطاهرة مع أقرب الناس إليه، واتهامه بالكذب والجنون، علماً بأنهم أدرى بسموّ خُلقه ونقاء سريرته به من ذاتهم، والغرابة في الأمر أن بعضاً ممن دافعوا وذادوا عنه لم يؤمنوا برسالته، ولم يقتنعوا بدعوته، ومنهم من ألصق به أصنافاً من التهم الباطلة مع يقينهم التام بصدقه، ومكارم أخلاقه وشمولية محاسنه، قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهۡدِی مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ) [القصص ٥٦].
نعجز كثيراً عن تفسير مشاعرنا الذاتية، وفك طلاسم أسرار بهجتنا وامتعاضنا، فلا نجد لها أحياناً أسباباً معيّنة، شعور مفاجئ ينتابنا لا نجد له مبرراً، سواء أكان شعوراً بالغبطة أو الحزن، يغزونا دون أسباب جوهرية، أو مقدمات، ونتعايش معه (الشعور) وكأننا قد ملكنا الكون وما يحتويه من الفرحة غير المبررة، أو شعور باليأس ليس له مصدر يجثم على صدرنا، ويضيق علينا الخناق بحبل الكآبة واليأس، وكأن الدنيا وباتساعها هي فتحة إبرة بالنسبة لنا، تكاد لا تتسع لأنفاسنا بالخروج منها، وطالما نحن نفتقد أحياناً مصادر مشاعرنا، منها الإيجابي والسلبي، فما علينا إلا التعامل بواقعية عدم الاكتراث المحبط، والتسرع المفرط، فليس هناك ما هو أفضل من الاعتدال والوسطية، فإنها تقي القلوب من الانكسار في كِلا الحالتين، لا إفراط وتسرّع في المشاعر وإصدار الأحكام، فهذا ما يؤنس ويطمئن القلوب، ويجعلها في نطاق الاسترخاء والارتياح، إن الله لم يخلقنا ليعذبنا ويشقينا، ولكن ليضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الجنة أو النار، وإما الخير أو الشر، قال تعالى : (وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ) [البلد ١٠].
وهذه الأسباب موكولة بأعمالنا ونويانا، وتتوقف عليها سعادتنا وشقاؤنا في الدارين.
هي دعوة في كيفية اختيارنا للطرق التي من شأنها أن تجعلنا نعيش بعيداً عن سُبل التشاؤم، دون أن تُفرض علينا من قبل الآخرين، فلكلّ منّا حياته وأساليبه، فلا نجعل من المنظّرين قدوة لفرض نظرياتهم علينا، فحياتهم مغايرة لحياة كل منا، وتجاربهم ليست تجاربنا، ونمط معيشتهم يختلف باختلاف أشياء كثيرة معهم، كالمجتمع، أو البيئة، أو المعتقد، أو التفكير، وأيضاً الرؤية للأشياء وحلحلتها، يجب علينا أن نعيش ونتعايش بسلام ووئام، وإن لم نتمكن من ذلك فما علينا إلا أن ننأى عن ما هو سوداوي ومؤلم، والتمسك بالقاعدة التي مفادها لا شيء يدوم ويستمر على حاله، والاستعداد للتوقع لما هو آتٍ كيفما هو، خير أو شر، والأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن إصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights