يونيو الحزين ورحيل كهفِ السالكين
صلاح بن سعيد المعلم العبري
إعلامي – عضو جمعية الصحفيين العُمانية
في صبيحة العاشر من يونيو عام 1986 م، رحل عن عالمنا وعن حياتي بالتحديد صاحب القلب الطيب والابتسامة الصادقة، أبي الغالي العزيز، فانطوت في ذلك اليوم من يونيو الحزين صفحة كهف السالكين إلى الخير والتُّقى والتواضع وحبّ الخير.
كانت الساعة السابعة صباحاً قبل استعدادي لدخولي طابور المدرسة، جاءني أحد الجيران بسيارته وعيناه محمرتان، وكان مُتمالكاً نفسه عن البكاء أمامي قائلاً: يتهيأون لزيارة والدك في المستشفى، انتابني شعور غريب، وإذ برجلٍ كبيرٍ في السن من أهالي بلدتي (العراقي) وأنا أهمّ بركوب السيارة يصرخ أمامي قائلاً: أمرُ الله وصل، والتحقَ والدك بالصالحين أمثاله، فاصبر صبراً جميلاً.
كانت صدمة موجعة، صدمة مؤلمة، لم أتمالك نفسي، سألتُ جارنا: ماذا حصل لوالدي؟ قال لي لا تخف ولا تحزن، والدك في حالٍ يُسعدهُ.
لم أفهم ما قاله من كلمات، بضع دقائق وتصلُ بنا السيارة إلى البيت، حينها رأيت الأقارب والجيران وأهالي البلدة وهم يبكون، نزلت من السيارة مسرعاً ونسيت كتبي ودفاتري في السيارة، أسرعتُ إلى أمي الغالية فوجدتها تبكي بُكاءً مُراً شديداً، احتضنتي بشدة ودموع عينيها الغاليتين تنهمر على وجهي وهي تقول لي: لقد مات أبوك يا ولدي فاصبر صبراً جميلاً.
ذهبتُ إلى جدتي الغالية – رحمها الله – كانت قد أُبلغت بالفاجعة، تبكي بحرقة، لكنها تدعو الله لوالدي بالرحمة والمغفرة وسُكنى الجِنان، وهي تُردد: اللهم إني أصبحت راضيةً عن ولدي فارضَ عنه يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
كانت جدتي – رحمها الله – فاقدةً للبصر، ضعيفة السمع، لكن الصلاة والدعاء وكلمة: على الله، ولا على غيره لا تفارق يومها.
جيء بالجسد المُسجّى على سيارة عمي، ألقت عليه جدتي نظرة الوداع الأخير بدموع الثكلى الحزينة المؤمنة بقضاء الله وقدره.
ذهبت به السيارة إلى مقبرة العراقي، حيث غُسل الجسد الطاهر، وتمت الصلاة عليه ودفنه في مقبرة العراقي، مجاوراً للراحلين من الآباء والأجداد والأحبة، ممن سبقوه إلى الرفيق الأعلى.
عاش والدي الراحل فترة 40 عاماً من مسيرة حياته مُعلماً للقرآن الكريم، ونشأ منذ طفولته نشأةً إيمانية في حفظ كتاب الله تعالى وتجويده وتفسيره، إلى جانب حفظه لمئات الأحاديث النبوية الشريفة. وفي الحادية عشرة من عمره بدأ حِفظ القرآن الكريم وتجويده وتلاوته. وفي العشرين من عمره بدأ رحمه الله بتعليم أبناء وبنات قريته العراقي والقرى المجاورة لها لكتاب الله الحكيم، فكانت البداية تحت شجرة مانجو تُعرف بإمباة المعلم، كان إماماً وخطيباً بجامع العراقي وتحمّل مسؤولية أموال الوقف والأرامل والأيتام فكان رجلاً ذا بصيرة ثاقبة ويتّصف منذ صغره برجاحة العقل والعلم والصدق والأمانة.
وفي العام 1953 تولى المغفور له بإذن الله الوالي العادل السيد سعود بن حارب البوسعيدى الولاية على ولاية عبري فأوكل مسؤولية كتابة الصكوك الدينية ومسؤولية أموال الوقف وإصلاح ذات البين وحلّ المشكلات وعقد القِران وغيرها إلى المغفور له بإذن الله والدي العزيز.
كما أنه انتهل الكثير من العلوم من صاحبه ورفيق دربه سماحة الشيخ الجليل العلامة إبراهيم بن سعيد العبري – رحمه الله – المفتي العام السابق لسلطنة عُمان.
اليوم إشراقة شمس الأول من يونيو، وعلى مدى الأعوام المنصرمة، وعندما تشرق شمس بداية هذا الشهر ينتابني حزن عميق، ففيه رحل الغالي العزيز أبي الحنون الذي أسأل الله له جنات النعيم، فنَم في قبرك نوم العريس أيها الحاضر الغائب.