رحلة نحو الذات
د. إنعام بنت محمد المقيمية
كانت أمان غابة جميلة، ذات أشجار عالية، وجو عليل، وطيور محلقة بأمان في كل مكان، تكمل أرنبة حكايتها قائلة: عشت أيام جميلة كمعلمة بصحبة طلابي في الإنتداب وبعد تعييني، أحب طفولتهم التي أجد فيها طفولتي، كانت حصتي تبدأ بخيال أو قصة أشد انتباههم بها وأكتشف فضولهم فيها، أحب حصص الاحتياط لألعب معهم وآنس بضحكاتهم البريئة. ذات يوم حضرت مشرفة لتقييمي داخل الصف وأعجبت بإدارة الحصة، وفي نفس اليوم دخلت مشرفة أخرى لتقيم معلمة مادة مختلفة في نفس الصف وطلعت مستاءة لعدم قدرتها في ضبط الصف بسبب الأرنوب المشاغب، كان كثير الحركة في الصف، ولأن مفهوم فرط في الحركة لم يكن معروفًا في البيئة التربوية في ذاك الوقت، ولقد كان يحصل على كثير من العقاب والصراخ والتهديد حتى ينضبط في أغلب الحصص، ولأن حصتي تتسم بطبيعة الحال على الحركة في أداء الأنشطة والتركيز على هذا الأرنب في أحضار الأدوات ومسح السبورة فكانت حركته منضبطة بشكل ما، فلم أكن أجد صعوبة في التعامل معه.
شاءت مدرستنا بإقامة مسابقة بين المعلمات على أن تكون مسابقة من إبداع المعلمة والتجربة على الطلبة، وجدت نفسي أفكر في هذا الأرنب المشاغب وكأني أبحث عن شيء يلامس روحي، أفكر في نظراته وحركاته، ما يثير اهتمامه وما يهدأ حاله، عندها تذكرت الأرنوبة الصغيرة التي عدت ثقتها بنفسها وكانت منكسرة من الداخل ليس لديها رغبة في الدراسة، وكنت أسمع عنها بأن لديها مشاكل نفسية وعقلية؛ مما دفعني للبحث عن ملفها في أدراج الإدارة لأتعرف عن حالتها بشكل أكثر وضوحا، تلك المواقف الإنسانية كانت أقرب لروحي وشغفي في البحث في علم النفس لأجد نفسي أقدم لدراسة هذا المجال.
هكذا عبّرت أرنبة عن مشاعرها لمديرة المدرسة ورغبتها بالانتقال من المدرسة لعالم الأطفال الذي أنار لها شغفها، إلى عالم الإدارة، إلى محطة مختلفة حتى تتفرغ للدراسة ظنا منها أن مهام المدرسة ستسبب لها ضغطًا دراسيا؛ لذا التجأت إلى الإشراف، وودعت طلبتها الوداع الأخير بدون أن تخبرهم برحيلها، انتقلت من عالم الحب بلا شروط إلى عالم إرتداء الأقنعة الذي تخفي شخصيته الحقيقية سعيا لحب وتقدير الأخرين، إلى أن تفقد الاتصال بذاتها وتندفن مواهبها. إلى عالم لم يكن من السهل الاختلاط فيه، فهو يضم مجموعة كبيرة من الحيوانات التي تحاول أن تنسجم مع بعضها تحت دائرة معينة. فهناك القرد الذي يحاول أن يرقى لتوقعات الآخرين، ويفرض على نفسه توقعات أعلى من العادي ويشعر أنه مدفوع للإنجاز متعلقًا بالمناصب، ولا يسعه تحمل الضعف أو الخطأ منه أو من الآخرين، ويميل إلى الانتقاد الشديد، وهناك الببغاء الذي يحصل على اهتمام الآخرين بتضخيم الحقائق والتباهي، يضيف شيء من الإثارة إلى الحقيقة، وهناك الكلب الذي يتسم بالعطاء دون شرط أو قيد متنازلًا عن حقوقه منكرًا لذاته، مضحيًا من أجل الآخرين.
أردت الحفاظ على ذاتي، أحبها كما هي بضعفها وقوتها، أعبر عن رغبتي بكل حرية بما أحب وما أكره، ما يعجبني وما لا يعجبني، بلا مجاملة ولا نفاق، أطرح فكرتي بلا خوف ولا انتظار مقابل، أتحدث عن إنجازي في مواقف تستحق الحديث فيه، أفتخر بتفردي الشخصي بكل ثقة ( اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)- من سورة يوسف). دون أن أشعر بالاستنكار، ولقد كان التكيف على هذا الأساس صعبا نوعا ما، فكانت رحلتي مع الألم والإحباط، وفقدان الحاجات رويدًا رويدا.
للحديث بقية