الرجل الذي جاء عند عتبة دارنا
أحمد بن سليم الحراصي
قد تبدو لنا أحيانًا المظاهر صادقة على غير ما تظهره البواطن، الظاهر الذي يراه الكثيرون منا على أنه صحيحٌ؛ لأن العاطفة تلعب دورا كبيرا في سهولة استمالة الناس والاحتيال عليهم، حينها فقط ستصبح طعما سهلًا لمثل هؤلاء الذين يستميلون القلوب لتلين لهم وتخضع لخداعهم واحتيالاتهم، فهل أنت قادرٌ على أن تقرأ هذه القصة الواقعية، والتي حدثت قبل أسبوع واحد فقط من تاريخ كتابة هذا المقال؟ يجب أن تُحكِّم عقلك هنا، ولا تلجأ لقلبك وإن لجأت لقلبك ستظهرني على أنني مخطئ، وأنا بطبعي لا أكتب مقالًا قبل أن أتأكد من صحته وصحة الرأي الذي أطرحه، ومع هذا فأنا أيضًا لا أريدك أن تنصاع لكل ما أقوله، فلكل منا رأي يحتمل الصواب والخطأ في آن واحد.
قبل أسبوع وبينما كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً، ظهر رجل يقود سيارة بيضاء مستأجرة (تحمل رقما عمانيا تجاريا)، لم يكن عمانيا كان من جنسية عربية، خرجت له وبعد السلام وأخذ العلوم والأخبار، طلبت منه أن يتفضل لمجلسنا ليستريح، فسألته عن نفسه، قال: أنا من بلد (اسم بلده)، ولست هنا لأظهر اسم البلد؛ تجنبا للإحراج ولخصوصية البلد وأهله، وكما أن الناس أجناس فما يكون في أحدهم لا يعني أن يشمل غيره من بني جلدته، فالتعميم هنا لا يمكن أن يكون مناسبًا، ولا يمكن أن يمثل شخصٌ واحدٌ بلدًا بأكمله، فأكمل حديثه قائلًا: أنا رجل وحيد، والوالد متوفي ولديَّ الكثير من الديون في بلادي ولا أجد لنفسي طعاما أو شرابا أو حتى مكانا لأنام فيه، وأطلب منكم الإغاثة بما تجود به أياديكم، تكلم الرجل كثيرًا بصيغة المهموم، وقال ما قال بكلمات تلين الحجر، فكيف بالقلب؟! فهيئته لوحدها تثير الدهشة، استمعت له كثيرًا دون أن أقاطعه، وعندما انتهى من كلامه بادرته بسؤال واحد فقط: إذا كنتم بحاجة إلى مساعدة لِمَ لا تذهبون إلى الجمعيات الخيرية التي من الممكن أنها ستساعدكم؟ فرد قائلًا: ذهبت معهم ولم يعطوني سوى ملابس وأردية، فأيقنت حينها أن الرجل يتلاعب بالكلمات؛ استمالة لقلوب الشعب العماني، قلت له: يا رجل، لا أعرف ما الذي سأقوله لك ولكن نحن كما ترى ليس لدينا ما نعطيك إياه – في الحقيقة إنني أكره التسول؛ ولذلك قررت أن أبتعد عن المتسولين، ولا أعطيهم شيئًا؛ لكي لا نشجعهم عليه- إلا أن الرجل قال: أعطيني أي شيء، فقررت أن أستشير من يعطيه؛ لأنني استحييت منه ورحمته خاصة وأن الرجل وصل إلى باب البيت، فهذه ليست شيمة يتخلى عنها العماني بأن يرد من جاءه في بيته، وعلى ما يبدو أن الرجل يعرف الأصول والأعراف المتبعة لدى العمانيين في هذا الشأن؛ ولذلك أتى يدق البيوت من أبوابها، فقررت أن أستشير من هم أكبر مني، فأخبرته أن ينتظرني لبرهة، وجدت الوالدة وأخبرتها ما حصل، فأعطتني بعض النقود والكسوة، فناولته إياها وذهب شاكرا لي على هذا العطاء.
لاحظت أن الرجل ذهب بسيارته باتجاه بيوت الجيران، فأرسلت رسالة عبر الواتس في مجموعة تضم شباب القرية فأخبرتهم بما جرى، الأمر الذي أثار استغرابهم به، كيف يكون محتاجا وهو قادم بسيارة أجرة؟! سيارة الأجرة تحتاج إلى مبلغ لإيجارها ومبلغٍ آخرٍ للتأمين، ومع هذا فتحتاج للبنزين أيضًا، فمن أين له لتغطية هذه النفقات إن كان فعلًا محتاجًا؟ أُخبِرَ الشباب باللحاق به ومعرفة ما خَفي، فلحقه بعض الإخوة بعد أن مر على ثلاثة بيوت، فأوقفوه ليسألوه عن مشكلته، وأن الجيران يشتكونك من مضايقتك لهم، فرد عليهم مثل ما قال لي، فطلبوا منه إثبات إقامته، إن كان يملك بطاقة أو جوازا، فأظهر لهم فقط نسخة من جواز سفر، ولا توجد لديه بطاقة هوية، فتيقنوا بأن الرجل دخل إلى البلاد دخولًا غير شرعي؛ فاضطروا للبلاغ عنه وعندما علِمَ بذلك ولى هاربًا بسيارته، ولم يلحقوا به خوفًا على حياته، فسجلوا له بلاغًا، وتم اعتقاله وباشرت الجهات المختصة في معرفة الأسباب.
الرجل هذا ارتكب جريمتين يعاقب عليهن القانون، أولهما: جريمة التسول وثانيهما: هروبه عند المواجهة والخوف الشديد الذي انتابه لحظة إبلاغهم الشرطة عنه، فهذا يعني أن الرجل دخل إلى البلاد متسللًا، كذلك استعطاف قلوب الناس وشيم العماني في هذا الشهر الفضيل، هذه حيل رخيصة يُراد بها إيقاع الناس في فخ لا يمكن الفرار منه سوى بالاستسلام له وهنا نص للمادة 297 من قانون الجزاء العماني، والتي تنص على أنه ( يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن شهر، ولا تزيد على سنة، وبغرامة لا تقل عن (50) خمسين ريالا عمانيا، ولا تزيد على (100) مالة ريال عماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من وجد متسولا في المساجد أو الطرق أو الأماكن أو المحلات العامة أو الخاصة، وللمحكمة مصادرة ما يكون معه من أموال عند ضبطه.
وإذا كرر المحكوم عليه التسول يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (6) ستة أشهر، ولا تزيد علی (2) سنتين، ويعفى من العقوبة من يثبت أنه كان مضطرا، أو عاجزا عن الكسب وليس له مصدر رزق آخر. وفي جميع الأحوال يجوز الحكم بإبعاد المتسول من البلاد إذا كان أجنبيا).
وكما تنص المادة 298 أيضًا على أنه (يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (3) ثلاثة أشهر، ولا تزيد على (3) ثلاث سنوات، وبغرامة لا تقل عن (50) خمسين ريالا عمانيا ، ولا تزيد على (100) مائة ريال عماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من استخدم حدثا أو سلمه للغير بقصد التسول.
وتضاعف العقوبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة إذا كان الفاعل وليا، أو وصيا على الحدث، أو مكلفا بملاحظته أو رعايته).
هذه القصة التي كتبتها لك -عزيزي القارئ- فقط للعبرة؛ ولكي لا تنصاع لخداع مثل هذه الفئة، الرجل هذا لم يكن لديه إعاقة ما تمنعه عن كسب رزقه بيده، فكان ما شاء الله شابا، لكنه أبى إلا أن يتذلل أمام الناس، فمن أعطاه من جيبه وكساه من سيبه فأجره على الله، فإنما الأعمال بالنيات، لكننا بحاجة إلى أن نتعاون ونبلغ عن أي متسول نراه؛ لكي نجتث هذه الظاهرة من جذورها، وسبق لي وأن كتبت مقالا سابقا عن هذه الظاهرة، فالقانون يأخذ مجراه ولا يتعاطف، وهو فوق الجميع. فيا أهل عمان، عُرفتم بأخلاقكم الطيبة وشيمكم، فلا تكن لكم نقطة ضعفكم في مخالفتكم للقانون.