فن “وقف الخسارة “
يوسف عوض العازمي
“كثير من المسرّات والمصائب يمكن أن يتسبب فيها الحظ، لكن سلامنا الداخلي لا يمكن للحظ أن يحكمه”.
(موريس ماترلينك)
وقف الخسارة هو مصطلح اقتصادي وماليّ وجملة تُتداول كثيراً في عالم التجارة والأسواق بأنواعها (المقال ليس عن مفهومها اقتصادياً فقط)، هي تنطبق بشموليتها على كافة مناحي الحياة وإرهاصاتها، حتى في العلاقات الشخصية البحتة، بل إنك تستطيع استخدام هذه الجملة في المجال البحثي والدراسي وفي الدبلوماسية والعلاقات الدولية، هي عبارة فضفاضة، وإن عُرف استخدامها بأسواق الأسهم بالذات، ولها مصطلحات وتعريفات بحسب الحالة الاقتصادية أو المقصودة.
لو تمعّنّا بماهية العبارة ومعناها سيجرّنا ذلك إلى الظرف المقصود بهذه العبارة، وهو ظرف يرمز لخيبة الأمل أو اليأس أو الخسارة كما هو اللفظ، وتعبّر عن خسارة واقعة، ويتم وقفها بأقل ما يمكن، أي أنك هنا لا تتحدث عن مشروع رابح، بل خسارة محققة، تحققت وأصبح الوضع واقعياً خسارة.
في العلاقات الإنسانية هناك ربح وخسارة، هناك المثل الشهير: “معرفة الرجال تجارة”، دلالة على تجارة رابحة، والمعنى لا يحتاج لتوضيح، كذلك هناك مثل مناقض: “قال خانقني وأخانقك”، “قال فارقني وأفارقك”، أي أن العلاقة التي وصلت لحدّ الصدام، فالأفضل فراقها كوقف لخسارة العلاقة وجعلها جزءا من الماضي، والمعنى لا يحتاج لتفصيل وواضح بما لا شكّ فيه.
في مجال الأسواق هناك العديد بل والكثير من الأمثلة على “وقف الخسارة” في أوقات انهيار أسعار الأسهم والتداول في الأسواق المالية، حتى بتجارة العقار خاصة ممن يضاربون بالأراضي والعقارات فالسوق أحياناً لا ترحم، وحتى عبارة “العقار يمرض ولايموت” الرائجة ليست بتلك الدّقة المعتمدة عليها.
لو فككنا العبارة جيداً من ناحية المعنى ستجد أنها تقصد القفز من سفينة الخسارة للوصول لشواطئ الربح، هناك اعتقاد لدى الكثير من أهل “الكار” بأن عدم الخسارة بحدّ ذاته ربح، بالطبع معنىً يخصّ من يغنّي على ليلاه.
أتذكر قبل سنوات تعثّر أحد المشاريع التجارية، بعد أن كان مربحاً، وكان صاحب المشروع تأتيه العديد من النصائح والتوجيهات بشأن الخسارة وكيفية التعامل معها، وبديهياً من يده في النار ليس كمن يده في الماء؛ لذلك وبعد تفكير هادئ وحسبة دقيقة؛ قرر وقف المشروع بالكامل فوراً، والبدء في إجراءات الوقف من ناحية التعامل مع العمالة والأصول والمعدات والتعاملات البينية مع أهل السوق، وحدد مدة زمنية رآها معقولة لتحقيق ذلك، سألته كيف وصلت لهذا القرار المفاجئ، أظن أنه قرار انفعالي.
قال: بالعكس قرار واقعي جداً ومناسب ومعقول؛ حيث لم يكن هناك حلّ آخر، إما الاستمرار بالخسارة والدخول في طرق معتمة لا نعرف متى تنتهي مع استنزاف غير معروفة نهاياته، وإما الاكتفاء بما حدث، والوقف الفوري وإغلاق أي احتمالات مجهولة؛ لذلك كان القرار الرابح فعلياً، وإن كان يصنف في خانة “وقف الخسارة”.
غنيّ عن الذكر أنه فيما بعد أثبتت الأيام أنه كان من أفضل القرارات.
كذلك عندما تقطع علاقتك مع شخص مؤذٍ، أو يسبب لك المشاكل، فهذا أحد أهم أمثلة وقف الخسارة، بعضهم البعد عنهم غنيمة؛ لذلك من المهم على الإنسان أن يراعي مبدأ وقف الخسارة في أي موقف ينطبق عليه المعنى.
والإنسان الحصيف يدقق في اختياراته سواء بالأمور الاستثمارية أو الشخصية، وحتى كما أسلفت في العلاقات الإنسانية.
قرأت عما سبق خاصة عن العلاقات الإنسانية في الإسلام ما يلي:
“جاء الوصف القرآني للنبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك واضحاً {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. ( القلم:4)
وفي هذا السياق يأتي التوجيه النبوي بالأمر المباشر:
“اتّق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حسن” (سنن الترمذي).
وقال صلى الله عليه وسلم:
“ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حُسن الخُلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة” (سنن الترمذي) “(1)
قبل سنوات في أثناء بداية أزمة مالية عالمية كبرى، وبدء المؤشرات اللعب مع اللون الأحمر، كان أحد الأصدقاء يملك ويدير محفظة استثمارية، وقد حققت آنذاك تقريباً ضعفي مبلغ التأسيس، أي أنت تتحدث عن ربح يجاوز 200%، ومع تراجع المؤشرات، واصطباغها بالألوان الحمراء؛ قرر في قرارة نفسة التخارج السريع وتصفير المحفظة، حتى لو تطلب الأمر فقدان هامش لا بأس به من الربح، أي في مثل هذه الأحوال الخروج حتى برأس المال يعدُّ ربحاً ممتازاً، وبعد قراره بوقت قصير قرأ وسمع نصائح كبار الاقتصاديين والعديد من مدراء المحافظ الاستثمارية؛ حيث كانوا يحثون صغار المستثمرين (في الغالب في أي سوق يعدُّ صغار المستثمرين هم الوقود) على عدم التخارج وترك الأسهم كما هي، وسترتفع بعد وقت ولا داعِ للهلع.
وأطاع النصائح وترك محفظته، ومع الأيام تنخفض قيمتها حتى تآكلت شيئاً فشيئاً وأمام عينه، حتى قرر في نهاية الأمر التخارج بعد خسارة أكثر من 70% من الأصل، و لما سألته لماذا هذا الوقت بالذات؟ قال:
لو صبرت قليلاً لن يبقى حتى 20%.
كان لاعباً مميزاً في إدارة محفظته، لكن لما سلّم الأمر للآخرين حدث ما لم تُحمد عقباه، أحياناً ليست كل نصيحة بجمل، حتى لو كانت من أهل اختصاص، ما دام أهل مكة أدرى بشعابها (أقصد المستثمر) لمَ يسلم أمره لغيره؟
علينا أن نفهم أن الإنسان ليس ملاكاً، والمثالية ليست موجودة بالرومانسية التي نظنها، في أمور كثيرة ما دمت واثقاً والمؤشر يثبت ثقتك، لا تضع أمرك بيد الآخرين، ثم تبكي وتقول: بيدي لا بيد عمرو.
فن وقف الخسارة له أصول وتقاليد لايعرفها إلا من هيّأت له الحكمة والحصافة.
___
1_ موقع لجنة الدعوة الألكتروني : ar.dawahskills.com
مقال : العلاقات الإنسانية في الإسلام . د. رمضان فوزي بديني .نشر في 6 ديسمبر 2017م