شتاء قارس بين مدفأتين
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في زيارة لأرض وطني الحبيب (مصر) خلال شهر يناير 2022، وفي شتاء قارس كان اللقاء مع الأسرة والأهل والأصدقاء؛ حيث طبيعة الشتاء هذا العام تختلف نوعا ما عن الأعوام السابقة في شدة البرودة، واحتياج الناس إلى الدفء بكل أنواعه، وتنوع المشروبات والأطعمة التي تمد الجسم بالقوة والحيوية.
ومن ملامح المجتمع المصري في الشتاء ذلك التجمع بين أفراد الأسر سواء أكان في النهار من أجل دفء الشمس حال سطوعها، أو في الليل (في المدافئ الكهربائية أو حول المواقد الطبيعية).
وقد شاهدت في التجمع مع المدافئ الكهربائية -مع إيماني بأهميتها خاصة في شتاء هذا العام القارس- كل واحد مشغولا بأمر من أموره، من خلال متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، والانهماك في أحداثها، وقلة الأحاديث الجانبية، وسيطرة الصمت على كثيرين، ومرور الوقت في ملل…
وحينها ترحّمت على مَن سبقونا من آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يوقدون المواقد الطبيعية ليلا في الشتاء، فنجتمع حولها متناولين بعض المشروبات التي توضع عليها خاصة “الشاي” بمذاقه الشتوي فوق موقده، وبعض الأطعمة التي يحلو الحديث مع تناولها حول الموقد في تجمع الأسرة والأهل.
وقد أدركت جمال الفترة التي نشأنا فيها مع آبائنا وأجدادنا خاصة تجمع الأسرة في حضور أحد الجدين اللذيْنِ يحلو لهما سرد القصص والحكايات حول تلك المواقد، وما أروعها وأمتعها! والجميع في سعادة وسرور، وقلت في نفسي: ماذا لو أعيد مع أفراد الأسرة والأهل لمحة من أيام الزمن الجميل؟
وكان لي هدف من هذا الأمر بجانب التجمع والجلسات النقية النبيلة، ألا وهو استشعار هذا الجيل من أبناء الأسرة والعائلة أهمية الترابط البسيط ودوره في المحافظة على البنيان الأسري من خلال مشهد واحد فقط تذوب فيه الفوارق بكل أنواعها، وأن السعادة الحقيقية نحن صانعوها، وفي إمكاننا أن نعيشها إذا أردنا وسط هذا الخضم من أعباء الحياة ومسئولياتها.
وبدأت في الإعداد لهذا الأمر، وسرعان ما وجدت إقبالا شديدا مِن كل مَن حولي خاصة أبناءنا وبناتنا الذين أبهرهم هذا التجمع من ناحية، ومن ناحية أخرى معايشة مشهد من مشاهد الأجداد التي سمعوا عنها، ولم يروها، ومتابعة تلك القصص التي كنا نتناولها في أحاديثنا حول هذا الموقد، والجميل في الأمر أنني وجدت حرصا من الجميع كل ليلة على الالتفاف حوله ومتابعة أمره، وإعداد وسائل التدفئة الخاصة به.
ليالٍ لم تدم طويلا في وقتها؛ إلا أنها تركت آثارا طيبة في نفوس كل من شارك هذا التجمع الأسري المبارك؛ حيث عدت إلى مقر عملي بعد انقضاء إجازتي، ولو بقيت أصف تلك المشاهد التي عشتها قرابة خمسة عشر يوما ما وفيتها حقها! وتكفي دعوة سمعتها من رفيقة دربي قائلة:” أسعدك الله في الدنيا والآخرة كما أسعدتنا”.
ومن جميل هذا الصنع أنه ومع الانتهاء من كتابة هذا المقال وصور حية ما زالت تترى بعبقها ورونقها البديع من مشاهد هذا التجمع الأسري، والأجمل أن مرسلي هذه المشاهد من فيديوهات وتسجيلات وصور هم من أبناء الأسرة وبناتها الذين ارتبطوا بهذا التجمع، ولسان حالهم يشدو: تعلمنا الدرس، وأدركنا عظم الهدف ونبله، وبارك الله الآباء والأمهات الذين سعوا ليلا ونهارا إلى تدفئة مشاعرنا قبل أجسادنا.
وحينها استشعرت الدفء الحقيقي في شتاء قارس كيف يكون بين مدفأتين؟