القروي والعاصمة.. (1-15)
خميس بن محسن البادي
هذه القصة خيالية، وليس لشخوصها في مضمونها صلة بأحد…..
ترعرع في قريته التي ولد فيها على الفطرة البشرية؛ حيث الطرق البدائية حينها لعدم معرفة أهل القرية أمور الطب الحديث بعد، فالقرية التي تستقبل صباح كل يوم شمسها بخيوطها العسجدية تحتضنها الجبال والأودية في ألفة ووداعة بعيداً عن التمدّن؛ حيث يحتضن سفح جبل من جبالها المنزل المتواضع لــ (شكيل)- هذا هو اسمه،، شكيل،، الذي اختاره له والده قبل أن يفارقه على غير رجعة، وهو في سن لم تتعدّ العام الواحد، فقد مات حين كان يجني العسل المحلي من أحد جبال القرية إثر انزلاقه وسقوطه من علو.
مضى بـ(شكيل) العمر سريعاً في أحضان البيئة التي وجد نفسه فيها بين الأودية، والجبال بقساوتها وتضاريسها الطبيعية، وعددٍ قليلٍ من الشياه والخراف التي تملّكتها الأم وابنها ميراثاً بعد وفاة الأب، والتي كانت رزقاً وفضلاً من ربٍ غفورٍ رحيم، فبمنه وفضله جلت قدرته كان في ذلك العدد الضئيل من الأنعام الخير الكافي لهذه الأرملة ووليدها؛ حيث أعالتهما بما كفاهما شر الحاجة والفاقة والسؤال، كما كان للجيران الدور الفاعل في تقديم العون والسند لها ولطفلها، وكان في القرية قلة قليلة من أقران هذا اليتيم بين السكان، لكنه تكيف بالعيش مع الوضع الذي فرضه عليه قدر عيشه وحياته في المكان، فتربى في كنف والدته التي آثرت هي الأخرى الوحدة والتفرغ لــ (شكيل) على الزواج من آخر بعد رحيل والده رغم أنها كانت في بواكير شبابها، ومن حسن طالع شكيل اليتيم الغض أنه وصل به العمر القانوني للتحصيل الدراسي في الوقت الذي قد أتيح فيه التعليم، وبدأ ينتشر للتوّ في سائر أرجاء البلاد، ولو أنه تحت الأشجار، وداخل غرف مبنية بسعف النخيل وجذوعه، والمواد غير الثابتة في بعض الأماكن، لكنه أمر يفي بالغرض مبدئياً حتى حين، وقرية شكيل إحدى القرى التي حظيت بذلك؛ حيث سارعت به والدته بمساعدة أبناء قريتها في إلحاق شكيل بمدرسة القرية التي أنشئت في ذات العام الذي أكمل فيه شكيل السن المقررة للالتحاق بالمدرسة؛ وبذلك كان من أوائل الذين التحقوا بالمدرسة في قريته.
وكان لقلة عدد السكان في القرية وتقارب المساكن من بعضها دورٌ في اللحمة والتآزر والتكاتف والتعاضد فيما بينهم والتقائهم على مدار اليوم والليلة ببعض، كما كان لطبيعة المناخ المتقلب مع تعاقب فصول السنة أثر فعال وواضح من حيث إكساب بشرة الأهالي سكان القرية اللون البرونزي الذي يظهر بجلاء على الوجوه، لاسيما وجوه النساء والصبايا والصبيان وشكيل أحدهم، عموماً فقد مرت سنوات الدراسة سريعاً بشكيل ورفاقه، حتى المرحلة الدراسية المتوفرة بالقرية، والتي لا تتعدى مرحلة الصف الثاني الإعدادي (بمسمى تلكم الفترة)، فها هو على أعتاب الولوج في مرحلة جديدة من مراحل العلم والمعرفة، فأصبح شكيل يتيم الأب، ابن العام الواحد فتىً يافعاً تجاوز بما يزيد على العقد من عمره، فآن له الأوان أن يبحث له عن موطئ قدم في غير قريته، إما ليستكمل دراسته، أو أن يعمل ويساعد والدته في نفقات عيش حياتهما.
شكيل عليه الآن أن يغادر القرية التي لم يغادرها قط خلال سنوات عمره الماضية إلا فيما ندر ولسويعات قلائل لم تتعدّ مركز ولاية قريته؛ حيث نشأ على التربية التي تربى عليها أسلافه، ونهل من الأخلاق والصفات الحميدة الكثير، وتشرّب بالشهامة والكرامة والاعتداد بالنفس، حتى أنه ورغم حداثة سنه كان كثيراً ما يؤم المصلين في مُسَيْجِد القرية؛ لحفظه أجزاء من كتاب الله، إلا أن ذلك أيضاً لم يحل دون نظرته بإعجاب بريء كبراءة قلبه نحو (سهيلة) التي آثرته بدورها على آخرين من أبناء القرية، ورغم حداثة سنهما وعدم خبرتهما في الحياة، فإن حسن التربية والأخلاق الفاضلة التي تربيا عليها وحظيا بها، كانتا بمثابة الحصن المنيع في عدم تجاوز حدود نظرتي الإعجاب بينهما.
طبعاً لم يكن شكيل هو أول من سيغادر القرية بحثاً عن مصدر علم أو رزق، بل هناك من سبقه بمغادرتها وإلى مواقع عدة من الوطن؛ وبذلك لن يكون من الصعب عليه أن يجد بعض الإرشادات والتوجيهات حال رغب مغادرة قريته، وهو أمر محتم لا مناص ولا خيار آخر عنه إذا ما أراد امتهان غير مهنة آبائه وأجداده التي مارسوها فيما مضى وما زالوا، والمتمثلة في الزراعة، وتربية الماشية ورعيها، وجني العسل البري المحلي المتميز بجودته وشهرته، وهي المهنة التي كانت سبباً في وفاة والده، ورغم أهمية هذه المهن في حياة شرائح متعددة من أبناء سلطنة عمان، وتمسكهم بها بمن فيهم أهالي سكان قرية شكيل وعلمه هو بذلك، كون الماشية التي ورثها ووالدته عن أبيه هي التي كانت سبباً في بقائه حياً يرزق بعد إرادة الله تعالى؛ فإنه يرى نفسه أنه بحاجة إلى مزيد من التحصيل العلمي، كما يرى في الوقت ذاته نفسه حائراً بين أن يعمل، أو أن يواصل دراسته، أو القيام بكليهما معاً إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
لم يكن الوصول إلى حيث قرر شكيل التوجه بالسهل اليسير، فهو لا شك يعي ذلك ممن سبقوه، والذين سيرافقهم إلى وجهته، فالطرق وعرة وجريان الأودية شبه المستمر لها ما لها من سبب مباشر في إحداث أضرار متفاوتة ومتفرقة على تلكم الطرق الممهدة التي لم تحظَ بالرصف المسفلت من القطران، فهي بمنأى حتى الآن عن إعمارها بسبب قيام نهضة حديثة في البلد، وإعطاء أولوية العمران للمدن، ووعورة الطرق الجبلية متعرجة المسارات ومتعددة الارتفاعات والانحدارات لها أسبابها المباشرة في تأخير مستخدميها من وصولهم إلى وجهاتهم، هذا غير أن المركبات التي هي على مقدرة من السير بذلكم النوع من الطرق، المركبات التي تعمل بنظام الدفع الرباعي، وهي ذات أعداد قليلة جداً من نوعها في القرى خاصة..
في الجزء الثاني -بإذن الله تعالى- سنعرف مدى عزيمة الفتى على ما هو مقبل عليه..