سيحوا…. ولكن
د. مصبح بن علي الكندي
تعتمد الدولة في عالمها الاقتصادي على التنوع البيئي وغيره؛ لتنال تعددًا في مصدر دخلها ورفاهية لمواطنيها وشعبها، من أجل ضمان الحياة الكريمة واستمرار أنشطتها التنموية، فتبدأ بالتخطيط لبرامجها السنوية وخططها الخمسية كما هو معهود في بعض البلدان، وتستقطب الخبراء وغيرهم للمشاركة في رؤيتها وتطلعاتها وتوجهاتها، ولا يقتصر ذلك على المواطنين فحسب، بل تتعدى إلى خبرات الدول التي سبقتها في تلك المشاريع أو الرؤى في مجالات عدة للاستفادة منها، ومن ضمن ذلك الخطط الزراعية التي تضمن الجانب الغذائي المتنوع، والتجاري والسياحي، وتستقطب وفودًا من بلدان شتى؛ لتطوير تلك الجوانب المختلفة؛ لتضمن البقاء على الساحة، ولقد حبا الله سلطنة عمان نعمًا كثيرة في برها وبحرها، فبحر عمان الذي يمتد إلى أكثر من ( 1700) كيلو مترًا يوفر من خيرات البحر ما لا يحصى، ووفرة مياهها، كما أكدت الدراسات أنها تتنوع في مصادرها بما يخدم مصالحها، وتنوع بيئاتها وحضارتها الضاربة، وتجارتها مع الدول المختلفة.
وسأقتصر على السياحة التي حباها الله سلطنة عمان سواء أبنية قديمة أو حارات جميلة تحمل عبق الماضي التليد الذي شيده الأجداد، من قلاع وحصون شاهقة أيضًا لها تاريخ عظيم ومشهود، تحكي قصة كفاح عماني شارك الحياة بكل جوانبها السلمية والحربية دفاعًا عن النفس، وهي لا تقتصر على الحرب، بل رمز للعدالة والحكم، فاتخذها أئمة عمان صرحًا يحكي لنا قصصًا في العدالة والمحبة سجله لنا التاريخ في صفحات من نور يشهد عليه جيل عاشه وجيل حافظ عليه، امتدادًا لثقافة أمة عمانية وقفت صامدة أمام أزمات الأوطان التي تسعى إلى استقرار وطنها وعزته أخذ منحى آخر للحياة واستقرارها رغم الظروف المحيطة؛ فإنها أعطت امتدادًا حيويًا لتاريخ عريق سجل بأحرف من نور.
وبعد هذا الاستقرار في سلطنة عمان، آن الوقت أن نظهر السياحة بمظهر يتناسب مع التقدم الحضاري متخذين من التفكير والتعمير قصصًا عشناها عن القلاع والحصون، وبيان جمالها العلمي والفكري بلون عصري جديد، ما ينقصنا هو التخطيط، وقيادة هذا الجانب بفكر جديد يقوده الشباب العماني، وفتح المعاهد السياحية وإدارتها بفن يصنع لنا حلولًا جديدة، وبحضارة جيل ينجز ويكمل ما بدأه الآخرون.
ومن ثَمَّ حان الوقت أن تنهض السياحة في سلطنة عمان بإنجازات حديثة ورؤية مستنيرة تدمج مع الرؤية الجديدة؛ بحيث لا نتخلى عن حضارتنا وقيمنا ودمجها مع الرؤى الجديدة في مفهوم السياحة، لا يكفى أننا نسجلها في سجل الخالدين، أو سجل التراث العالمي، وهي تنهار وتندثر، فماذا سيبقى للأجيال غير أحاديث شتى جمعتها الصور والكتب، وعلى الأرض يرى اندثار تراثه وتراث أجداده؟ فاستغلال خيراته التي حباها الله أماكن جميلة لا تتطلب منكم إلا التفكير السليم والتخطيط الموجه، واستقطاب المهتمين والشباب وتوجيههم، ولا يترك للفئة الإدارية، بل لفئة تخطيطية، والاستفادة من بعض الدول في كيفية الحفاظ على التراث العماني الذي سننقله للأجيال القادمة؛ للحفاظ عليه لأجيال متعاقبة، ولعلني أعرج على بعض التراث العماني في مدنها التي زخرت بتاريخ محلي وعالمي .
ففي مدينة نزوى العريقة تراث يحكي لنا تاريخ أمة عاشت وأعطت حياتها نبراسًا للأمة القادمة، فقلعتها الشهباء التي ظلت قرونًا عديدة مكانًا للأئمة والفقهاء والمتعلمين والإمبراطوريات التي قادت العالم، وتخرج منها أجيال في أخلاقهم وسماتهم وعلومهم، كما يحكي فلجها الذي يروي عروقهم قبل أشجارها الوارفة ومناطقها، مثل العقر ليحكي جمالًا آخر على عظمتها وعظمة المواطن العماني، ألا تستحق من دولتنا الغالية نظرة أخرى، وتثقيف شبابها بأهمية التراث، وجعله قياديًا في توجيه كل ما هو تراث نحو استغلال تلك الموارد الطبيعية؛ لإظهار مناطقها الضاربة منذ القدم بجمالها في صنع المستقبل؟
وفي مقدمتها أيضًا بركة الموز التي تزخر هي الأخرى بتراث حضاري وتاريخ عريق يحكي قصة العماني وحضارته، وماضيه، وأفلاجه التي تزخر بخريرها لتسقي بساتينها الغناء حضارة شقت صوامع الفكر؛ إنها دلالة على عمق التلاحم بين الإنسان العماني وبيئته وتراثه وفكره المستنير، حقبة أسسها فكر لم يدرس في الجامعات المرموقة، أو خطط له بهندسة معمارية، بل فكر أعطى نتاج عصارة السنين والخبرات المتراكمة، وفي مدينة بهلاء والحمراء قممٌ شامخة بارزة للعيان، فقلعة بهلاء تاريخ عريق هي الأخرى سجلت شموخ العماني في تراثها العالمي بسورها وجدرانها، وقد أولتها الحكومة الرشيدة في ذلك الوقت إحساسًا جديدًا بلغة العصر، وأعادتها إلى مكانتها التراثية كبقية القلاع والحصون، في نزوى والرستاق، ومدينة بهلاء حضارة شامخة على مر العصور والقدم تحكي لنا أيضًا حقبة تاريخية ازدهرت لفترات غابرة عاشت الماضي والحاضر شاهدة لعظمة الفكر العماني وهندسته وعلمه.
ماذا لو نزلت من بركة الشرف، وعلى يمينك ويسارك جبال شاهقة بين مدينة الحمراء والرستاق أودع الله فيها أسرار الطبيعة متنوعة بين أشجار ومياه وطبيعة خلابة ووعورة طرقها، لكنها تحمل تاريخ أمة عمانية عظيمة في فكرها لم يترك لها التاريخ فاصلًا للعزلة، بل سجلت ثقافة مجتمعات بينها رابط إنساني وحضاري وعلمي، لتبين لك واحات الرستاق الخلابة ليستقبلك فلج الميسر الذي هو الآخر سجل تاريخًا عظيمًا وعالميًا، وبجانبه برج المزارع الذي ما يزال شامخًا، حكى لنا عنه الأجداد من مجد وتراث، ولم تنله يد التجديد، ولكنه شموخ الإنسان العماني الرستاقي تبين لك من بعيد؛ حيث يمر بداخله فلج الميسر متوجها ليتناغم مع بساتين الرستاق، ويناديها؛ لتنهض وتعطي ثمارها يانعة يتخطى قلعة الرستاق ليسقي البساتين الوارفة متناغما مع فلج الكسفة، والحمام، والصايغي، والمحدث، وأبو ثعلب، من لم يمر بهذه الأفلاج لا يعرف مفهوم خريرها الذي أسعد قلوبنا، ونحن نجوب طرقاتها التي حفظناها، ونحن بين السوق والقلعة وعلايتها العظيمة في تناغم وتناسق لا تحكي فقط براعة العماني في بنائها، بل في حركته المعمارية والتنظيمية، فلا يمكن أن أصف لك ذلك، بل أدعوك لزيارتها والتمتع بمفهوم حضارتها الغابرة، وحفاظها على الكيان العماني الذي شيد عقولًا آمنت بالحياة، وأنها للعمل الجاد لا للخمول والدعة، بل شيد مع ذلك حضارة أخرى متناثرة على طول الولاية وعرضها، وفي قلعتها تأسست المدرسة الرستاقية التي ولد معها قادة الفقه والعلم والتفسير والحديث والقضاة العدول؛ فكانت أيضًا مدارًا للفقه بين المدرسة النزوانية والمدرسة الرستاقية تخرج منها طلبة العلم .
أما مناطقها الشرقية كالمضيبي وسناو وغيرها من المناطق التي تزخر بها سلطنة عمان تاريخ آخر حافل بالعلم والعمل، والشخصيات البارزة العمانية تاريخ آخر قد لا يسعني الوقت لإبراز معالمها وعلمائها وفقهائها وتاريخ حركتها الاقتصادية والسياسية والعلمية مثل باقي المدن العمانية.
ألا يستحق هذا التراث العماني الزاخر منكم سرعة الإنجاز وسرعة التخطيط؟ أليست هناك رؤى حقيقية؟ ألم يشغل هذا التراث قلوبكم بما يحمله من علوم وفقه وتسامح أشعلت قلوب الآخرين بحب عمان؟ ألم تسمعوا عن السياحة، وما حققته في بلدان العالم؟ ألم تعلموا أن التراث تاريخ، ومن لم يكن له تاريخ؛ فهو مندثر لا محالة؟ ألم تسمعوا أن الدول التي بدأت بعدكم بقرون أصبحت تبحث عن القشة التي تسجلها كتاريخ لهم؟ إن إنجازاتكم في الحفاظ على تراث سلطنة عمان سيسجله التاريخ، وما زلت أتساءل ألم يحن الوقت أن يكون لهذا البلدة الطيب أهلها ما تستحقه؟
إن تاريخ سلطنة عمان تاريخ حافل بالمنجزات، ومع طيبة أهلها، وتعاملهم الراقي، وشهادة التاريخ لهم، وشهادة من زارها، وشهادتنا نحن على تاريخها الذي عشناه؛ يوجب العمل من أجل استنهاض الماضي وإحيائه، ورفع عجلة السياحة نحو التقدم.
إن الحفاظ على السياحة في سلطنة عمان واجب وطني وجماهيري، فلا تشغلنا عنه الحياة الحديثة، وستكتشفون في الأيام القادمة أهمية السياحة ودورها في التنمية التي تقودها الحكومة، وأن التعامي عن دورها ليس في صالحنا جميعًا؛ فهي تعريف بسلطنة عمان ودورها الحضاري والتجاري .
وقبل نهاية حديثي عن السياحة؛ أعترف أنني لم أعطها حقها في مقالي، ولكن أستنهض الهمم من أجل الحفاظ عليها، فدعنا نتكلم قليلًا، ونعمل كثيرًا مثمنين الخطط التي تقوم بها الحكومة، وما يتناسب مع سلطنة عمان وجمالها الخلاب، وجمالها الحضاري، وموقعها الاستراتيجي، لم يبق إلا وضع البرامج المهمة، وإشراك الشباب، وإقامة كافة أنواع البرامج والأنشطة التي تسهم وتظهر سلطنة عمان بالمظهر الحسن، وتسهم في تطورها واستمرارها، حفظ الله عمان سلطانا وشعبًا وأرضًا.