مفارقات أسرية في أساليب الحوار
محمد بن سالم الجهوري
ورد العديد من التعريفات حول الحوار، وكلها تجتمع في أنه حديث وتشاور قد يقع بين طرفين أو مجموعة من أجل بلوغ هدف وحقيقة ما أو مجموعة أهداف بعد التفهم والتفاهم، والوقوف على أوجه التشابه والخلاف، وطبيعة ما تم التوصل إليه تعاونًا واقتناعًا وتفهمًا.
ومهما تحدثنا عن الحوار وأهميته فإنه يكفينا ما أشار إليه الإسلام في العديد من المواضع لدوره وأهميته وماهيته.
فهو يرتكز على أسس وأخلاقيات قائمة على الاحترام الذي يقود لبناء علاقات اجتماعية متوازنة ومرنة في التعامل الخاص والعام، ونبذ كل ما يؤدي للتطاول والتجريح والشتات الذي يقوم على التعصب وفرض الرأي والتزمت لفكرة ما.
فالتفهم والاستماع والمناقشة واستقبال الآراء ووجهات النظر بمختلف جوانبها والعمل على توضيح الإيجابية والسلبية فيها؛ دلالة على العمق الفكري للمتحاورين واحترامهم بعضهم بعضا، ومدى تحضرهم وإلمامهم بمتطلبات اللباقة والإقناع الذي يهدف لمعالجة موضوع ما قائم على تحديد مساره وتوجهاته ومناقشته بطريقة شاملة متزنة تراعَى فيها الآداب الحوارية بعيدًا عن الشخصنة والجدليات السلبية.
وفي ظل المتغيرات الراهنة والانفتاح بين الثقافات ومدى تأثيرها وتأثرها، تحتاج كل ثقافة في أي مجتمع كان إلى بلورة مختلف هذه المعطيات بما يتناسب مع توجه المجتمع ذاته وحفاظه على مكنونات ثقافته وحواره مع الثقافات الأخرى وفق الرؤى الإيجابية للحوار التي لا تتعارض مع مبادئه وقيمه.
لن نخوض العموم المجتمعي، إلا أننا نلقي نظرة مبسطة على المرتكز والنواة الرئيسة في كل مجتمع، وهي الأسرة التي أشغل بعضًا منها الكثيرُ من المدخلات الثقافية والاجتماعية؛ فأصبحت بمعزل عن معطيات الحوار وقواعده القائمة على صقل مختلف أنماط السلوك وبنائه وتفعيله، والعمل على غرس الأخلاقيات الفاضلة للأبناء؛ مما سبب ظهور فجوة في التعامل بين الأبوين والأبناء الذي جعل بينهم جسرًا يخشى كلاهما تخطيه.
ولعل من أشد ما برز في هذا الجانب الخروج عن المألوف والمتعارف عليه من خلال التأثر بالأفكار الدخيلة التي لم تجد حاجزًا يتصدى لها لدى بعض هذه الأسر كونها لم تفتح مجالا للمناقشة والحوار وصقل المعارف منذ البداية (فقدان الحوار الديني والاجتماعي والثقافي)؛ حيث تجد بعض الآباء والأمهات يبحرون في سفينة فكرية والأبناء في سفينة فكرية أخرى رغم رسوهم في نهاية المطاف بذات المرفأ، وبلغت نسبة الفاقد مرحلة كبرى، فلا يعلم هذا عن ذلك، ولا ذلك عن هذا !!! كأن الأمر لا يعنيهم، ويتركون الحبل على الغارب، وينصدمون عقب ذلك بما يظهر من سلوكيات غير محببة من الأبناء سواء على أرض الواقع أو في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح بعضٌ منها مقرًا وملجأً للحوار، وما يصاحبه من منافذ قائمة على نشر الخصوصيات للعامة.
ولعلنا نتساءل: ما الدافع لذلك؟
المسببات والمثيرات المحفزة للتوجه المشار إليه أعلاه عديدة، وعند البحث عن المغزى لهذا الطريق يقودنا في غالب الأمر إلى ميناء الحوار الذي فقد بين أبناء الأسرة الواحدة، فقد أصبح الكثير مشغولا بما لديه، ولم يراعِ ضوابط وقته وتنظيمه الذي بدوره أفقده زمنًا مقضيًا بينهم يتبادلون فيه الحديث؛ لغرس القيم والمبادئ والمعارف، وليدلي كلٌ بدلوه؛ ليفرغ ما لديه، ولا يَبقى فيه شيء ليفرغه في غير موضعه؛ مما نتج عنه ظهور فئات انطوائية، كما نرى في بعضهم الآخر توجهًا في كل وقته يدفعه بكل ما لديه نحو التفريغ في وسائل التواصل الاجتماعي إيجابًا وسلبًا؛ كونها الجاذب لشيء مفقود غدا كل شيء فيه عامًا.
فلو كانت هناك فسحة من الوقت لتدارس معطيات الحياة وتوضيح ملامحها بمختلف صورها الحديثة بجلسات حوارية توضح النافع من غيره؛ لوجدنا في الغالب تحصينًا وتقنينًا لما يُقدم عليه الأبناء، كما أن الجلسات الحوارية وتعويد الأبناء عليها، لها أثرها في صقل هذه الشخصية وزرع ثقتها وبنائها بالشكل الإيجابي والاجتماعي بعيدًا عن الشخصية التي لم تجد من يأخذ بها؛ فتجدها كما ذكرنا تفرغ ما لديها في وسائل التوصل إيجابا وسلبا، وأخرى تجدها منطوية منعزلة لم تعتد على جلسة حوارية على المدخلات وطريقتها، والحياة وطبيعتها.
وعلى النقيض من ذلك تجد أسرًا وضعت نصب عينيها كل شاردة وواردة في آلية التعاطي مع المدخلات الثقافية والاجتماعية ووسائل التواصل وكيفية الاستفادة منها إيجابا، والبُعد عما تفرزه سلبياتها بأسلوب حواري جاذب يشجع الأبناء لهذا الحوار الذي يجمع الأبويين والأبناء على طاولة واحدة في مختلف نواحي الحياة التي صُقلت في بداياتها وفق نهج تربوي إيجابي للسلوك والأخلاق، وكيفية التعامل مع المتغيرات الحديثة بما لا يتعارض مع القيم والمبادئ الثابتة.
وهذا ذكرني رغم اختلاف أدوات الحياة بالسبلة التقليدية في الماضي التي كانت مدرسة للحوار وضبط السلوك وآلية التعامل يتعلم فيها الصغير والكبير، فكانوا معلمين ومتعلمين فيها، ومهما اختلفت الأدوات، ومهما تنوعت المسميات، ومهما كانت طبيعة الظروف فإنه يبقى للقواعد ومرتكزاتها أبنية تقوم عليها، وتصاغ بمعرفات عدة تجتمع كلها تحت عنوان الحوار.