بنت الجيران مثل خارطة بيت الجيران
المهندس/ ناصر بن سالم الوهيبي
nssw71@gmail.com
في خضم حياتنا قصص وحكايات منها المفرح، ومنها ما هو محبط، ذات مساء وقبيل الغروب كنت على شاطئ البحر، فالبحر بالنسبة لي مرتع طفولتي وعشقي الأول والأخير، فأبي كان بحارا، وقد عمل بالكويت منذ نعومة أظافره قبل النهضة الحديثة التي قادها المغفور له السلطان قابوس طيب الله ثراه، وعندما عاد أكمل مسيرة عمله كصياد بالبحر حتى عمل بشركة طيران محلية؛ فالبحر ليس مصدر رزق فقط، فهو وسيط يتواصل عبر عبابه شعوب العالم أجمع، والنقل البحري يعتبر من أرخص وسائل النقل التجاري وآمنها، بالإضافة لكونه مكانا للاستجمام والراحة، وتفريغ الشحنات السالبة من النفوس المتكهربة، وهو أنيس العشاق وونيسهم والمحبين، وخاصة إذا احتضنت مياهه الزرقاء نور القمر في الليالي المقمرة، فتلك وحدها قصة طويلة، فصولها لا تنتهي، وخلال خربشتي بقدمي لمياه البحر اقترب مني أحدهم، وكانت على محياه علامات الحيرة، وقد بدأت تتبدد شيئا فشيئا بفعل امتصاص هواء البحر النقي لمعظمها، وتسربت ملامح الاسترخاء إليها، فهو أمام سلطان البحر، تبادلنا الحديث معا، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن، سرد عليّ قصته مع الحياة، والتي لخّصها في أنه لما كان في أيام الدراسة عرض عليه أهله أن يتزوج إحدى بنات الجيران التي كانت في نفس سنه، فكّر بالموضوع على مضض، وشاور، وناور، وحسب من وصف له أنها بنت جميلة ققط؛ هذا ما رشح له من خلال تلك المعلومات، وهي أكملت سنوات الدراسة بالمدرسة، لكن لم تؤهلها درجاتها للتعليم العالي، رضى بما أشار عليه أهله، وتزوج قبل أن يدخل الجامعة، وقبل أن يسافر إلى أي مكان، أو يخرج من عباءة منطقته وقريته، وبعد سنة من الزواج اكتشف أنها مجرد صورة وشكل، فليس لديها سمات أخرى في شخصيتها، ووعيها بالحياة وبالعالم قليل، ولم تتعلم المهارات الحياتية في إدارة شؤون البيت، وفي طريقة التعامل مع الزوج؛ فثقافتها سطحية، وهو يزداد وعيا وثقافة يوما بعد يوم، وهي ما زالت في عباءتها المحلية، لم يشعر أنها تشاركه يومياته وتطلعاته.
ولما تخرّج، وبدأ العمل، ومن كثرة ما تحب بيت أهلها مخارجه ومداخله، اقترحت عليه أن يعمل بيتا لهما مثل بيت أهلها؛ حتى تشعر أنها في بيت أهلها، وافق على مضض، وكان يريد إنجاز العمل بسرعة، وخلال وجوده بالجامعة وسفره تفاجأ بأن العالم من حوله بالخارج مختلف تماما عن عالم زوجته وقريته ومنطقته، وبأن الإناث أشكال وألوان، وبثقافات مختلفة، ووجد خارج المنزل الأكثر وعيا، وثقافة، ومهارة، ونضجا، وبدرجات بعيدة عن اختيار أهله له، وكان هناك صراعٌ داخل نفسه حتى منزله الذي شيّده على خريطة جيرانه، وجده لا يواكب العالم حوله، ووجد ما هو أفضل بكثير عندما سبر العالم حوله.
اتفقت معه فيما رمى إليه، وألقيتُ اللوم عليه؛ لكونه وافق على ذلك المشروع المكلف على عجلة من أمره، فكان بإمكانه التريث؛ حتى ينهي دراسته الجامعية، ويبدأ في العمل، ثم يفكر في موضوع الزواج، فهو قرار مصيري تتوقف عليه حياته بأكملها، إما سعادة الجنة أو شقاء النار، هدأتُ من روعه، ورسمت له على رمال البحر خطين، الخط الأول: أن يبدأ مع بنت الجيران، ويطلب منها أن تؤهل نفسها، وترتقي بمهاراتها، وتوسع وعيها ومداركها، وأن تلازم القراءة والاطلاع، وتتعلم مهارات إعداد الطعام وتربية الأبناء، والتعامل مع إدارة المنزل بكل حرفية وإتقان، وأن تحاول مواكبة قريناتها من النساء في مشاركة أزواجهن أفكارهن وتطلعاتهن، وأن تفهم أن الشخصية ليست مظهرا وشكلا فقط، وإنما أمور أعمق من ذلك؛ لأن الشكل مع الزمن سوف يتلاشى، وتبقى الصفات الجوهرية، وهي التي تجذب الطرف الآخر، وبالنسبة لخريطة البيت فيمكن بناء طابق آخر، وبخريطة وشكل مختلف؛ حتى يتولد إحساسٌ بالتغيير، ونصحته أن يساعدها في ذلك كله.
أما الخيار الثاني فإذا لم تتوافق وتطلعاته المشروعة، نصحته أن يغير البيت بالكامل، وعتبة البيت أيضا، ويبحث له عن بيت جديد وعتبة بيت جديدة، فالحياة لا تتوقف على نقطة معينة، وهذه عبرة لمن ينظر للبشر كأشكال فقط؛ فينجذب لهم، ولا يعرف الجوهر، فهو المهم.
خرجنا من دائرة الشاطئ وقد حيره هذان الخياران؛ وكيف يبدأ مع الخيار الأول؟ وما عساه أن يفعل! وبعد مرور سنوات تقابلنا بنفس المكان هذه المرة على موعد محدد والبشاشة ترقص على محياه، ومعه طفلان جميلان، تبادلنا الحديث المؤجل منذ سنوات، وأخبرني أنه عرض عليها الخيار الأول، ونبّهها إذا لم تقبله فإن الخيار الثاني هو الحل، وقد اختارت الخيار الأول، وحاولت جادة جاهدة لترقية نفسها في كل النواحي، ومن العزيمة والإصرار أخبرني أنها أكملت البكالوريوس، وفي نيتها مواصلة الماجستير؛ حبا في العلم، وليس الشهادة، هو يقول: لقد وجَدَتْ الفرق كبيرا بين حياتها الأولى والحالية، ومن خلال بعض الأسفار كانت تأخذ بعض الأفكار الإيجابية وتطبقها في حياتها، وأصبحت تتقن طبخ الوجبات المحلية والعالمية، وتحولت إلى محاضرة في التوعية والإرشاد بفضل العزيمة والإصرار؛ شكر الصدفة التي جمعتني به بأول لقاء، وعلى مساعدته في إزالة الحيرة التي كانت توقظ مضجعه، وقال لي: إن الانسان سواء أكان رجلا أم امرأة يجب أن يرتقي بنفسه إلى الأفضل؛ ليواكب العالم من حوله، مثلما يتم ترقية برامج الهاتف النقال بين فترة وأخرى؛ ليواكب اختيارات مستخدميه وتفضيلاتهم؛ فكلما كان الهاتف يدعم برامج أكثر وأفضل ارتفع الطلب عليه، وارتفع سعره، وكذلك الإنسان، كلما ارتقى بنفسه بالمهارات والمعلومات والخبرات صار جاذبا لكل طالبي تلك الأشياء التي يتصف بها.