في غير المكان المتوقع
عبد الله بن حمدان الفارسي
جالسة على قارعة الطريق، منفردة عن أمثالها من الباعة الذين يمارسون مهنة البيع على أرضية أكتاف الطرق، في سوق لحي شعبي قديم مكتظ بالمارة، تفترش حصيرا ذي صناعة محلية يدوية، يبدو عليه من جوانبه القِدَم والاستهلاك الاستعبادي اليومي، عندما يقودك قدرك إلى المرور من أمام (بسطتها) لا شيء يجذب انتباهك، ولا يشدك إلى ما هو معروض عليها، فكل ما تقع عليه عينك وقتها لا يستحق عناء التمعن أو التفكير فيه، سوى نظرة عابرة مُجبَرة عيناك بالتكرم عليها، كانت زيارتي لهذا السوق هي الأولى بحثا عن كتاب تم وصفه لي من قبل أحد زملاء المهنة، كونه (الكتاب) سأجد فيه الضالة التي أبحث عنها، وبعد الجهد من جراء البحث عن الكتاب لم أهتدِ إليه، ولضيق الوقت وتراكم بعض المسئوليات، فضلت مغادرة المكان على أمل العودة إليه في يوم آخر، فيه من الوقت ما يتسع لجولة بحث أخرى تفقدية، وفي طريقي للخروج من السوق، وبخطوات فيها وقع التعجل والتسارع في المسير، على عكس دخولي للسوق، وجدتها على ما هي عليه من وضع جلوس خلف بسطة، تكاد تخلو من المعروضات إلا من أشـياء في غاية البساطة، تراكم عليها الغبار، وكساها الصدى، تناظر المارة بنظرات ينعدم فيها التوسل والاستعطاف، لربما يظن بعضهم أن من وراء كل هذا المكوث هو التسول.
ولكني شخصيا لم ألتمس هذا فيها ولم يهدنِي حدسي إلى ما هو مهيب ومريب، سوى نظرات متبادلة خاطفة، لا تفسير لها إلا ما جمّع بينهما ظرفا الزمان والمكان لا أكثر، وبعد يوم لا يخلو من المشقة الذهنية والجسدية، وفي لحظة اختلائي مع نفسي، واستعادة الشريط الذهني لبعض الأحداث لليوم، والتهيؤ والتخطيط لليوم التالي، وجدتها تحتل المكانة الأولى على قائمة أعمالي وأنشطتي لذلك اليوم بكل تفاصيلها، وكأنها نقطة الأساس ومحور الارتكاز له، لاغية بذلك أهم الأحداث والمعطيات، وما مررت به خلال يومي، تذكرت افتراشها لبقعة أرض تفتقر لأدنى مقومات الراحة، وذلك الحصير البالي الذي يستنجد بالمارة المتسوقين، مفضلا الانطواء والانزواء في دهاليز الزمن حتى النهاية، بعيدا عن نظرات الازدراء، ولن أنسى تلك المجسمات المختلفة والقليلة المبعثرة عليه، التي لا تسعفني ذاكرتي بالتيقن من مكوناتها؛ لأن وقت مروري بها لم أعرها الانتباه؛ لتتمكن من الترسخ في ذهني، الآن وليس قبلا، فكل ما يستوقف شريطي اليومي، ويجبرني على تكرار الإعادة، تلك النظرة التي لا معنى لها، والتي تخلو من العمق العاطفي والتجاذب الفكري، أو التشابه في الضالة التي من أجلها تكبدت عناء الذهاب لذلك السوق، وكلما مر الوقت أجدني أسير تلك النظرة الشرعية، وهي فعلا كذلك؛ لأنها لا تنتمي إلى ما هو خارج المألوف، وسرعان ما تداركت الأمر، ولمْلمتُ شتات أمهات أفكاري، لأجد بأن القرار – وبلا تردد – قد حُسم، وهو العودة لسبر أغوار تلك النظرة، والتقوقع فيها؛ لاستخلاص نتاج ما تكنه وتحتويه، وما أن تفتحت عيون اليوم الجديد، ودبّت الحيوية فيه، وجدد نشاطه، وحانت مواعيد العمل فيه، وقد استجمعت قواها الإنتاجية، وفتحت أبوابها للساعين لأهدافهم وغاياتهم؛ هممت مسرعا وداخلي يكتنفه شعور خرافي، يسابق خطواتي متوجها لصاحبة النظرة الملهمة؛ لعلني أجد تأويلا للشرارة التي أشعلتها في أتون عقلي وقلبي معًا.
وجدتها كعهدي الأمسي بها في ذات المكان، وكأن القدر قد ثبّت أوتاده فيها؛ ليمنعها من التزحزح ولو قليلا من أجلي، ما إن واجهتها وتعانقت نظراتنا المتشوقة لبعضها، حتى أرخيتُ لجام الشغف والتأمل؛ تمهيدا للانطلاق، ورفعت أشرعة البحث لتمخر عباب المعرفة والاستكشاف.
نعم فقد وجدت روحي ضالتها التي تنشد، وعقلي حلّق في فضاءات هي أجمل من الخيال، وقلبي عانق وحي الابتكار، ما كنت أبحث عنه بالأمس وجدته معها، وفيها أكثر مما كنت أبحث، وأحلم به، موسوعة علمية، شاملة، كاملة، مكتملة، مجتمعة فيها، تحمل في أحشائها ما لا يُتوقع، الكثير منا يفتقد حاسة الإدراك بجمالية ما حوله، وما معه ويذهب بعيدا للبحث عمّا هو بين أنامله؛ وذلك لضبابية موهبة الاكتشاف لديه إلا بعد فوات الأوان، ولطالما تسربت وضاعت غاليات الأثمان من بين أيدينا بسبب كثافة سُحُب الجهل وتراكمها على عقولنا، والكثير منا ينجرف، وينحرف وراء المظهر متجاهلا الجوهر، وإصدار الأحكام من خلال العناوين أو الأغلفة، والسواد الأعظم فينا ممن لا يبالي، ولا يكلف النفس للبحث ونفض الغبار، أو الاكتفاء بالانبهار باللمعة الزائفة.
وأخيرا أترك الحكم لك أيها القارئ الكريم، يا من حلقت بهواجسك وأفكارك فوق سطوري؛ لاستشفاف المضمون والمكنون والغاية من وراء ما سُرد.