قرية المنصور “الجزء الثاني”
أحمد بن سليم الحراصي
لا يزال حديث الألسن عن المنصور يتناقل من حيٍّ إلى حيٍّ آخر ولكنه لسان ليست لديه المعرفة الوافية عنها، هذه القرية التي كانت مركزا مهما للكثير من القبائل العمانية، وكنت أتسائل بيني وبين نفسي، ما الذي جعل هذه القرية تختفي من مسامع الناس في الوقت الحالي، فمن غير المعقول أن تكون قرية كهذه في طي النسيان، ذلك الحصن الذي شُيِّد منذ زمن غابر في قرية كهذه دون شيء له أهمية تُذكر لا يمكن أن يمر في ذهن عاقل، وفلج يجري مسافة طويلة تحت الآبار ليخرج من حُجره بعد هذه المسافة ويبعث لأهل هذه القرية الصحراوية الأمل في البقاء كمنقذ جاء يستبشر بأن الحياة في هذه القرية ممكنة وأنها ليست أرضا قاحلة، لذا استحقت أن تكون تلك الأراضي الشاسعة خضراء وأن ينعم أهلها بالرخاء.
مزرعة المنصور
ربما هي أحد الأسباب التي جعلت من هذه القرية تبدو ذي أهمية في كونها تمتلك تربة خصبة، المزرعة التي نمَت مع تشييد الحصن وهامت أشجار النخيل السحاب رفقة هذا الحصن الشامخ كشموخ قاطنيها من الآباء والأجداد، زُرع فيها الخلاص، الخنيزي، الزبد، قش جماء، والمبسلي الذي انتشرت رائحته العبقة في أرجاء القرية وهو في التركيبة مطهوا، وغيرها الكثير من أشجار النخيل التي لن تجدها غالبا إلا في هذه القرية، وزُرع أيضا الكثير من المحاصيل الموسمية، فكان فيها الليمون،السفرجل، الرمان، والمانجو (الأمبا) وغيرها الكثير، كما كانت هناك المحاصيل من الأعلاف التي استحققتها مواشي أهلها من الأبل والأغنام التي كانوا يجيدون تربيتها والاعتناء بها جيدا ولا تزال هذه العادات باقية، كانت المزرعة التي تُسقى من فلج المنصور كبيرة جدا وكانت محاصيلها وفيرة وأحجام ثمارها لا يمكن أن تتخيله العين المجردة اليوم، كان (اللجل) ممتلئا بالماء دائما حتى يفيض فتتسلل مياهه ليلا خفية إلى المزرعة وتروي أشجارها الظمياء قبل أن يأتي البيدار فجرا وينزع عنها أغلالها المقيدة بها فتتراكض المياه مهرولة طمعا في ثواب إرتواء جذر شجرة استنجدت ذلك اللجل ليلا لينقذها من عطش كاد أن يرمي بها إلى هاوية الموت، أما اليوم فلن تستطيع أن ترى كل ذلك الخير، كل تلك الخضرة المنتشرة بين جنبات الحصن ، لن تستطيع أن تستلذ طعم ثمار هذه المزرعة، فقد تقلصت المساحة الشاسعة ولم تبقَ إلا ذكرى يتناقلها من عاش فترة رخاء هذه القرية.
أهل المنصور وعاداتهم
تعود ملكية المنصور للسادة البوسعيدين توارثوها أبا عن جد، فكانت بمثابة محل إقامة لهم، فكان القصر (حصن المنصور) هو مكان إقامتهم فيه فقد مكث السيد هلال البوسعيدي في القصر 25 عاما، والمنصور الآن تعود لورثة السيد المرداس البوسعيدي وفي العصر الحديث تم إهداء حصن المنصور للسلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- ، حيث عمل رحمه الله على ترميم هذا الحصن ليصبح تحفة فنية رائعة تحكي عظمة الإنسان العماني في بناء هذا الصرح الشامخ.
أما عن عادات أهل القرية، فقد كانت تُمارس عادات وتقاليد ومهن والكثير من الأعمال، فقد عكف الأهالي في صناعة الحرفيات والأواني الفخارية، وكان الناس موزعين في عدة مهن، بعضهم في الزراعة، وفي الرعي والبناء وبعضهم يتدارسون القرآن الكريم وحفظه ،حيث كانت المنصور تزخر بكوادر متعلمة.
كانت لديهم سلوكيات وأخلاق عالية فعندما يَقدِم ضيفا إلى المنصور لا يُسمى ضيفا فقط بل هو (ضيف المنصور) وهو أشبه بـ(ضيف الشرف) الذي نراه يحضر في الاحتفالات وفي المسلسلات؛ أي بمعنى ضيف رفيع المستوى، فضيف المنصور هنا هو ضيف الجميع من يسكن القرية وكل أهل القرية يُضيِّفونه بما عندهم من طعام وشراب فكل أحد منهم يأتي بما عنده للضيف ويلتقوا به جميعا في مجلس القرية ( مجلس المنصور) ومن يُهين الضيف فكأنه أهان الجميع لذا كان احترامه واجبا على الجميع حتى يشعر الضيف بالأمان.
كما ساهم أهالي المنصور في الكثير من سباقات الهجن والعرضة وشاركوا أيضا بإبلهم في فعاليات متنوعة واحتفالات البلاد فصدحت أصواتهم بالهمبل الجميل وفن الرزحة والعازي.
أكبر من حقها
عندما نشرت الجزء الأول الذي تحدث تمهيديا عن هذه القرية،حصنها وفلجها، أرسل لي أحدهم ردا وقال في عبارة مستنكرا (بأنك تعطي المنصور أكبر من حجمها!)، ربما يكون كلامه منطقيا خاصة وأن القرية في مهب النسيان، لكنني أقول بأن التعريف بها أصبح حاجة ملحة لقرية ضربت أعماق التاريخ فانتُشلت جذورها قبل أن تنمو فروعها، المنصور لم تكن قرية عادية وإلا ما أهمية حصن في قرية؟ وما أهمية حفر آبار وتكسير صخورا صلدة لكي يجري فلجا؛ لأنه توجد مزرعة بعد 4 كيلومترات على وشك الإنشاء؟ لا يمكن أن تكون هذه الأشياء محض صدف، فهل هو يا ترى أكبر من حجمها أم أنه يبدو أقل؟
نقطة أخيرة
ما تعانيه المنصور اليوم من ضياع كبير وسط بحر هائل من الأمواج تحتاج إلى ربان سفينة ينقذها من غضب الموج، فتقلص الزراعة لم يكن أمرا محمودا وهي الأرض الخصبة بالتربة والماء وأن استرجاع تلك البسيطة الخضراء ليس صعبا بقدر ما هو بحاجة إلى أيدٍّ عاملة تنتشلها من الخراب لتأخذ بيدها إلى المستقبل الذي سيذكرها بالماضي وتكتفي بالحنين إليه، الحصن قد تم حله والحمدلله ولكن ألن يكون للمزرعة نصيبا من هذه الحلول؟ نتمنى ذلك ونأمل بأن تكون هناك خطة قادمة تنقذها.
المنصور أرضا سياحية ووجب التنبيه بأن القادمون منها وإليها في ازدياد منذ أن بدأ الشارع المسفلت بالسماح بعبور السيارات وهذا أمر جيد وجاذب للسياحة في البلد ولكنه بحاجة إلى خدمات تنشط هذه السياحة، كما أنني أريد أن أذكر بأن هناك بعض السياح لا يلتزمون بعبارة (أترك المكان أفضل مما كان) فعند الزيارة للاستمتاع بمناظر القرية الطبيعية والمكوث فيها لساعات يجب أن ترموا النفايات في أماكنها المخصصة لها بعد الانتهاء ونتمنى لكم زيارة طيبة وممتعة.
………………………………….
بعض المصادر المهمة التي كان لها الفضل في كتابة هذا المقال
1.الفاضل/ صالح بن العبد البوسعيدي
2.الفاضل/سليمان بن سالم الحراصي
3.الفاضل/سيف بن سليمان الحراصي
4.الفاضل/عيسى بن ثويني الحراصي