2024
Adsense
مقالات صحفية

الرقص مع الكلمة

عبدالله بن حمدان الفارسي

الكلمة الراقية لا تُحبس في ليلة زفافها لاسيما عندما تكون في أجمل صورها وفي أبهى معانيها الجميلة، لا تكبّلها بقيود الخجل، دعها تحلق؛ لتعانق فضاءات الجمال كيفما شاءت، فالتردد يئدها في مهدها دون تحقيق مآربها النبيلة، وهذا إجحاف في حقها وإنكار لوجودها.

من هذا المبدأ ومن خلال هذا المنطق وبالتماشي مع نقاء وانتقاء الكلمة المميزة، يكون بمقدورنا الوصول والولوج للقلوب ذات الاتصال المباشر معنا وغير المباشر، حيث أن الجملة التعبيرية إن كانت مزخرفة كلماتها بالرّقة، وموشحةً برداء الذوق والتودد المجمًل لسوف تكون سفيرا فوق العادة لنا لدى قلوب الآخرين.

بهكذا نمط وأسلوب وبالتعامل الأمثل مع الكلمة وتسخيرها وتطويعها لما سيكون غايةً نبيلةً، لتكوين العلاقات الإنسانية السامية للتعايش والتقارب والتواد، فالكلمة مصدرها الإنسان فباختلاف منهجيته، وأيدلوجيته، ومكتسباته الحياتية، وبمهارة تعامله، والتسايس معها؛ تكون له الغاية فيما يرغب، فالبعض منا لا يجيد التعامل مع الكلمة والتهويد لها، ليس من باب انعدام الثقافة العلمية، ولكن لنقص هرمون التفلسف الخطابي لديه، وقلة الخبرة في كيفية التلاعب بالكلمات وتدليلها ومراقصتها لفظيا وحسيا، لذلك الكلمة لا تطاوعه ولا تسايره، رافضة خدمته حين تجد فيه التردد، والانطوائية، والعزلة الفكرية، والممارسة الفعلية معها باستحياء، الكلمة حين تمارس معها فنون الرقص الاحترافي والتناغم مع أبجدية حروفها بانسجام تام تشعرك هي بذاتها أنكَ قد امتلكتها واستعبدتها برضاها الطوعي التام، الكلمة فرسٌ جامحٌ إن لم تستطع ترويضها وكبح جماحها فلن تمكنك من نفسها، وسوف تتمرد عليك وهي على لسانك، وتكمن في عقلك وتستوطن قلبك، الكلمة هي مفتاح وقفل للقلوب في آن واحد، هي سحر لفظي مكامنه تحتوي على فهارسٍ عديدةٍ مبوّبةٍ، وأبجدياتٍ متنوعةٍ ممددةٍ على سطور مخيلة الزمن، التعمق فيها يصيبكَ بنوع من أنواع الغطرسة الفكرية وهوس الإدمان الكتابي.

كل ذلك لا يتأتى إلا إن تمكنتَ من سبر غور معانيها، وفكِّ طلاسم مضامينها وميزتَ بين: (الظاء والضاد)، وبين: (كان وكاد)، والتمييز الحسي بين: (الجمرة والتمرة)، لذلك تجد من لهم في قرض الشعر باعًا طويلاً وعميقًا، وممارسته باحترافية مهنية، ومداخل ومتاهات متشعبة، لا يمكن لمن دون المستوى أن يستوعبها أو يجاري مقاصدهم، ويفندون ما تربص على السطور وما يرمون إليه، الكلمة إن أردتها أن تكون رهن ما تكنه في جوفكَ لتظهره بأناقة لفظية، وأردتَ منها التفوق هي على نفسها من خلالك عليك أن تجعلها في منأى من حلبات سباق الكلمات المبتذلة والمتكررة، وأن تشعرها بالسيادة والريادة الأحادية، نحن من نمتلك المقومات والأسس القيمة لاستنباط الكلمات، وانتقاء الجمل من مناجمها لنوصلها لمن نحب بأزهى وأروع ما تكون، ولتكون جسر عبورٍ إليهم، ومنفذ دخول لأعماقهم، إن للكلمة بتنوع وتعدد معانيها ومصادرها أشدّ فتكا من السلاح، وأرق من البلسم على الجراح، إجادة التعامل بها ومعها (الكلمة) يحتاج لمرانٍ، وخبرةٍ، ودرايةٍ، وفهمٍ لما وراء المعنى الظاهري لها، لأن بعض الكلمات تكون مبهمة المعنى متمردة السلوك، الأمر الذي يتوجب معه تواجد قاموس ذهني متوقد لديك لفك رموزها وتحليلها، فليس من السهل القفز والتراقص على صهوة الكلمة من غير الإمساك بلجام الحكمة والمعرفة، والتمرس اللفظي والكتابي، وإلا سوف ينتهي بك الاستعراض في غياهب الإنتهاء.

الغاية فيما أود أن أبسطه لكم ولنفسي في ذات الوقت، الحذر والتحذر من الإستهانة بالكلمة ومعانيها، فبعض الكلمات إن انطلقت لا يمكن استردادها ولا اعتذار يحني قامتها. فلنتعامل بقدر الإمكان بأبسطها وأجملها وأرقاها وأعذبها، فإن ذلك هو بابٌ لتآلف القلوب، وتجمع الأفئدة على بساط المحبة، ورحم الله امرَأً عرف قدر نفسه، فكم أوقعتنا كلماتنا وأوجعت أحبتنا، وأوجعتنا بسبب عدم إجادة التعامل معها.
ويحضرني قول قائل :-
“وما أبرئ نفسي إنني بشر…
أسهو وأخطئ ما لم يحمني قدر…

ولا ترى عذرا أولى بذي زلل..
من أن يقول مقراً إنني بشر… “.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights