بركة الموز بين ماضي سبلة الغرفة وحاضر السبلة الجديدة
يكتبها : سالم بن رشيد الناعبي
على مدى الأزمان القادمة ستظل منارات السبل في عمان الحضارة عالية بعلو قامات رجالاتها شيبا وشبابا ، وتعلقهم بهذا الموروث الاجتماعي الحضاري وتحلقهم اليه ، سيبقى رمزا شامخا في سماء تأريخ الوطن الغالي ، محاطا بنسيج مجتمعنا المترابط بالمودة والتآلف ، يلتفون في رحاب ساحات السبل وفنائها يوم فرحهم ويوم ترحهم ، فهي مركز ثقافي وعلمي ومدرسة جامعة لتعليم الناشئة الأدب والخلق والاحترام وخدمة الصغير للكبير ، وتوجيه الكبير للصغير ، وتعلم أدب الحديث والانصات للمتحدث الأكبر ، والسلام عند الدخول ومكان الجلوس ، وتقديم الماء والفنجان وحمل السلاح ولبس الخنجر. كل هذه تكتسب من البيت الشريف والسبلة الفاضلة .
وأود الإشارة عبر هذه السطور إلى أن أول فرصة ذهبية نلتها في الصغر عندما أتاح لي آبائي الأبرار فرصة طيبة ظلت محفورة في ذاكرتي ، حيث تم تفضيلي لأغنم القهوة في سبلة الغرفة بحارة السيباني ببركة الموز عندما حل ضيف على الأهالي له تأريخه ، والي نزوى السيد هلال بن حمد السمار الذي تسمر صدارة السبلة وتبركس ( قعد ) حوله مشايخ ووجهاء البلدة ، وبعد المناشدة عن العلوم والأخبار أحضرت القهوة التي تكونت من التمر والأناناس المعلب والقروص المعسلة ، فجاءتني اللحظات المباركة لأسكب القهوة ليكون أول فنجان أقدمه للوالي المهاب الذي يحسب له الف حساب . هذه الشخصية الكبيرة التي تحمل دهاء معاوية وحكمة علي وشجاعة عمر وصاحب الشخصية الكارزمية المتفردة ، في حضرته الهيبة ، وفي نظرته الرهبة ، وفي دعوته الرعشة .
وبعد مرور سنوات عدة زادت معرفتي بعزيز نزوى السابق رغم هرمه إلا أن فطنته وقوة ذاكرته ظلت ترافقه حتى يومنا هذا ، فبين الفينة والفينة ألتقى به في المناسبات بحكم مهنتي الصحفية ، في كل مرة ألتقي به كان يبادرني بالسؤال عن والدي قبل وفاته -رحمة الله عليه – الذي استضافه في حصن نزوى في زمن أحداث الجبل الأخضر . تلك السبلة التي أعيد بناؤها في نهاية الستينات القرن الماضي في أعقاب تعرض بركة الموز لأمطار غزيرة تهدمت سقوفها و جدرانها ، لكن عزائم الآباء رغم قساوة الأوضاع ظلت صامدة في وجه ضنك العيش ، فتشابكت أياديهم البيضاء في تلاحم متناغم لترتيب العرين من جديد ، و بيت الضيف الكبير ، فبعزائمهم وتعاضدهم أتموا البناء وعاد النشاط للسبلة وعاد الأهل شم روائح القهوة المقلية وسماع صوت دقها بأنغام موسيقية تحرك الأشجان وتعزف وتر الألحان ، هذه السبلة الحصينة الواقعة على سفح جبل مطلة على الزرع والنخل ، الرابضة على ساقية فلج الخطمين ، تحيط بها المساكن من كل جانب ، ودعها ساكنوها منتصف السبعينات غدت اليوم أطلالا تدمع أعين زائريها الذين تقهووا تحت سقفها واستراحوا على بساطة بساطها .
ها هو المشهد اليوم يكرره أحفاد أولئك الرجال من أبناء سيد عمان ليعيدوا ذلك الماضي التليد ، ويتعاهدوا على المسير نحو طريق الأجداد ، لكن بصيغة هذا الزمان ليكونوا لحمة واحدة كأسلافهم الذين لم تتخمر في نفوسهم القبلية والمناطقية ، متحدين على إقامة سبلة مشتركة يتساوى الجميع في حق الانتفاع بخدماتها ، ترجم المخلصون المتعاهدون على بلورة المشروع إلى واقع عملي لتكون السبلة من الرحابة مايمكنها من استيعاب الكثافة السكانية وتطور المجتمع ، وتنوع مناسباته وبما يتواكب و معطيات العصر .
من هذه المنطلقات الراسخة جاء توافق الأخيار وعقدوا عزما صادقا مؤطرا بحسن النيات وتجاوز التحديات ، فتشابكت الأيادي البيضاء مرة أخرى في مشهد جديد ملؤه النوايا الصادقة لتشكل فريق عمل متجانس مترابط ، وبدأت رحلة انطلاقة الألف ميل بخطوة واحدة ، لتضع الأطار المكاني القانوني والبيئي والفني والمالي وفق روئ مدروسة بدقة متناهية ، ليكون الهدف ساميا بسمو الوطن وسمو تاريخه مستمدين تصاميمه من إرثنا العماني الحضاري الممزوج بالفن المعماري الإسلامي ، فوضعوا خطواتهم الثابتة على منصات النجاح وصباحات الفلاح ، فجاءت الانطلاقة الموفقة فتسابق المتسابقون (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) بمد أياديهم السخية دون استجداء أو الحاح من أحد لأحد ، فاللحمة الوطنية التي زرعها سيد عمان البار هي التي انحاز حولها الأخيار وحركت المشاعر ، فشمخ البناء بتعاضد الأبناء قولا ثم فعلا ، فواثق الخطى يمشي ملكا ، فالخطوات الطيبة توجت بمكرمة سامية حمل بشرى النبأ السار بتفضل مولانا السلطان بهبة سخية سلطان الأمين ، فعلا به البنيان ، ومنه تزين المكان ، وسطعت الأنوار وارتسمت على محيا الأهالي الأفراح .
هكذا شيد العمانيون حضارتهم بجدهم وعطائهم ، ووحدة كلمتهم ، وبتضامنهم في القول والعمل والطاعة لولي الأمر في السر والعلن ، وهاهي بركة الموز يحلق ابناؤها مساء غد الجمعة شيبا وشبابا حول قبلة قبة السبلة الحديثة ، ليحتفوا جميعا في تظاهرة ، الأولى من نوعها في تأريخ النيابة بافتتاح مشروعهم المشترك الذي سيستظلون بظله في مختلف مناسباتهم ، وسيشاركهم فرحتهم الكبرى معالي الفريق أول سلطان بن محمد النعماني وزير المكتب السلطاني الذي يقف دوما بشهامته المعهودة وأصالته المعروفة وتواضعه الملموس خلف كل عمل مجتمعي صالح وإنساني مبارك طال كل أرجاء وطننا الغالي ، فتحية إجلال وإكبار لكل من له أفضال ، وأحيي أهل الهمة الشجعان من الرجال الأوفياء الذين شمروا سواعد الجد منذ بداية المشوار حتى مسك الختام فلهم التحية والاحترام.
بركة الموز
الخميس ١٠ يناير ٢٠١٩