2024
Adsense
مقالات صحفية

الرَّقمنة وبناء الشَّخصيَّة

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com

إن كانت الرقمنة تعني بمفهومها ودلالتها تطبيق تقنيات التحوُّل الرقمي، والاستفادة منه، والانتقال بالخدمات التي تقدّمها القطاعات الحكومية والخاصّة إلى نموذج عملٍ مبتكر يعتمد على التّقنيات الرقميّة في ظلّ التوجه إلى الحكومات الإلكترونية في سبيل حل كثيرٍ من المشكلات المعاصرة، وتوفير أكبر فائدة للمستخدمين، فإنّ هناك رؤيةً للرقمنة بمفهومٍ آخرَ لها أثرٌ في بناء الشخصية، وتشكيل نمط الحياة.

هناك منْ يحيا حياته، ولا يهتم بما سوف يقدمه لنفسه، ولأسرته، ولأهله، ولوطنه، وللآخرين جميعًا، همّه فقط أن يعيش دون هدف واضح، وبلا غاية منشودة ومرجوّة، فتحديد الهدف والغاية يساعدان في فهم هذه الحياة جيدًا، فالحياة تحتاج إلى الأقوياء الذين يستمرّون في التحرُّك بكل الوسائل؛ كي يتغلبوا على مشاكلها وهمومها.

وفي مساء ليلة من ليالي الشتاء جمعني لقاء بمن أدين لها بعمري كله،كان له عظيم الأثر في بناء شخصيتي، وفهم الحياة، وقراءتها قراءة أعمق مما كنت أظنّه قبل ذلك؛ حيث ساءلتني: هل سمعْتَ عن قاعدة الــ 10/ 90 للكاتب ستيفن كوفي؟ ألا تريد أن تغيّر حياتك للأفضل؟ أما آنَ لك أن تكون رقمًا مهمًّا في الحياة ؟!

تعجَّبت من قولها، ومضيْتُ أحتسي ما تبقَّى من قهوتي، وأعادت السؤال مرةً أخرى: أما آنَ لك أن تكون رقمًا مهمًّا في الحياة ؟! فقمت من جلستي بعد استئذانها، وتركتها بعد أن هاتفني أحد أصدقائي في أمرٍ ما، فلمْ أكْترِثْ بما قالته.

ومرّت عدة أيام، وجمعنا لقاء آخر، وتذكّرت كلماتها، وإذا بها تعيد السؤال نفسه، وفي هذه المرة لم أتركها، بل سألتها: ماذا تقصدين أن أكون رقمًا مهمًّا في الحياة ؟

وتبادلْنا أطراف الحديث، وقدَّمت لي كوبًا من الشاي – كنْتُ في شوقٍ إليه – في ليلةٍ من ليالي الشتاء القارس، وجذبني حديثها العذب؛ حيث قالت: بداية هناك قاعدة للكاتب ستيفن كوفي لو تدبرتها فسوف تغيّر حياتك إلى الأفضل، ومبادئ هذه القاعدة تتمثَّل في:
• الـ 10% من الحياة تتشكّل من خلال ما يحدث لنا.
• الـ 90% الباقية يتمّ تحديدها من خلال ردود أفعالنا.
فمثلا لو ذهبت للسفر، وأنت في صالة الانتظار تأخّرَتِ الطّائرة لأمرٍ ما، فلست مسئولا عن هذا الحدث ( 10 %)، ولكن ردود فعلك تجاه هذا الأمر أنت المسئول عنها (90 % )، ويمكنك أن تعترض على ذلك، وتبدي هذا في نفسك أو علنًا؛ حيث إنك لم تسافر في الوقت المحدّد، ويمكنك تقبُّل ذلك، وتنتظر قليلا مستقيدا من وقتك في عملٍ هادف، مثل القراءة، أو إنجاز أمرٍ ما.
وحاولْ أن تجرّب هذه القاعدة في كلّ شئونك، وسوف تجد تغيّرا كاملا في حياتك وشخصيتك، وستصبح رقمًا مهمًّا في الحياة.

لِمَ ترضى أن تكون رقما بسيطا لا فائدة منه ؟ بل كن رقمًا مهمًّا وصعبًا، كن قويًّا، كن الطالب الأول، والمعلم الأول، والموظف الأول، والطبيب الأول، والمهندس الأول، والتاجر الأول، والصانع الأول، والكاتب الأول، والرياضيّ الأول .. إلخ

قُلْ لنفسك: سأعمل لحياتي، وأخطّط لها؛ كي أنجح، وأصبح قويًّا وفائقًا، فالتّحدي صعب، ولا تجعل أحداث الماضي تقيّدك، استفدْ منها، وأبحرْ في خِضَم أُفقك وكلُّك أملٌ في الحياة؛ كي تتولّد عندك الهمَّة العالية، والإبداع المتقن، والإيجابية الفعَّالة.

عندئذٍ أشرق فجرٌ جديدٌ، وتوارى الخوف، وتبدَّد ظلامٌ ظلّ سنواتٍ عجافًا، وقالت لي وكلي أملٌ في استنشاق عبير حديقتِها الغنَّاء، ونصائحها الفوّاحة:
كن رقمًا مهمًّا في الحياة بأن تكون فاعلا لا مفعولا، وقد أرادك الله لإعمار هذه الأرض، والحياة تنتظر منك العطاء الوفير، وليس أيّ عطاء ، أعطِ كلَّ ما عندك؛ فأنت كبير، والكبير عطاؤه كثير.

استمرّ في سيرك، وكنْ ذا شخصيّةٍ قويّةٍ، ولا تنسَ أنَّ العقول العظيمة دائمًا تتكلّم بالأفكار، وانزعْ نقاب ضعفِك، وغيّر محيطك، وحفّز نفسك، وكنْ ذا عزيمةٍ وحماسٍ، فالمهام كبيرة، والقطار يسير، فكن قويًّا فالحياة لا تعرف الضّعفاء.

وهناك مَنْ ينظرُ إلى أعبائه وهمومه دون أن يكون إيجابيًّا في التعامُل معها، وقد يتراجعُ منذُ أوّل عقبةٍ تقابله، لكن إنْ كان إيجابيّا، ونظر إليها من جوانبَ أخرى فسوف يرى حلولا ومخارجَ يمكنها أن تفتح له الأبواب المغلقة، ومن ثَمَّ تتجلَّى هذه العقبات، ويُدرك وقتها أنَّه غيَّر نظرته للأشياء من خلال الإيجابية التي أكسبته رقمًا جديدًا ومهمًّا في بناء شخصيته.

وانتبهْتُ أكثر لكلامها وهي تتحدثُ عن علاقتي بأسرتي الصغيرة، فساءلتني: كمْ مرةً ترى أبناءك كلّ يوم ؟ وكمْ مرةً تجلسُ معهم ؟ وكمْ مرةً تُتيحُ لزوجتك وقتًا للتعبير عمّا بداخلها، وتشاركها ما عندها ؟ وكمْ مرةً تأخذُهم معك للتنزُّه وللاستمتاع بما في الحياة مِنْ جمال؟

وتعجّبت من قولها خاصةً عندما طلبَتْ مني أنْ أُجيب عن هذه الأسئلة بيني وبين نفسي، وقالت: من خلال إجاباتك ستستشعر معنى أن تكون رقمًا مهمًّا مع أبنائك، ومع زوجتك ، فإمّا أن تكون إيجابيّا وتشاركهم، ومن ثَمَّ يكون لك وجودٌ بينهم، ويصير بناء أسرتكم صرحًا شامخًا مفيدًا؛ فتصبح رقمًا مهمّا في حياتهم، وإمّا ألا يكون لك وجودٌ فأنت بلا رقمٍ فعّال، فكّر، ثم أجبْ بينك وبين نفسك.

تمتمْتُ قليلًا، ثم قلْتُ لها: هاتِ ما عندك، فكلامك يطيّب الجراح، ويُنير الطريق، فقالت: كيف تُعبّر عن حبّك وطنَك ؟ فقلْت لها: أنا أحبّه كثيرًا، فقالت: الكلّ يحبّ وطنه، لكن كيف تحوّل هذا الحب إلى عمل؟

فجذبني الكلام، وقالت: إن عرفت كيف تكون رقمًا مهمًّا مع أسرتك وأصدقائك، وفي عملك، فسوف تكون رقمًا فعّالا في وطنك، سوف تعي تمامًا الطريق، وتدرك أنّ هذا الوطن ينتظر منك الكثير، فكمْ من كثيرين يعيشون على أرضه، لكنْ لم يقدموا له إلا قليلا! فاختر لنفسك أيّ طريق تسير فيه؟ هل تعيش في وطن، أو وطنك يعيش في أعماقك ؟

وقلت لها: – رحمك الله – لقدْ أحيا كلامك قلبًا أنهكته مِحنٌ كثيرة، وأرهقته مشاكل جمّة لا فائدة منها، ولو اطلعت على قاعدة 10/ 90 قبل ذلك لتغيّرت حياتي إلى الأفضل، واستطعت السيطرة على كثيرٍ من ردود أفعالي التي أفقدتني كثيرًا ممّنْ حولي، وأخذَتْ مني وقتًا طويلًا لو استثمرته صحيحًا لكنتُ ذا شخصيةٍ مختلفةٍ، وأعِدك – إن شاء الله – أن يكون كلامُك فجرًا مشرقًا لغدٍ أفضلَ، وأنْ أُصبحَ – ليس فقط – رقمًا في الحياة، بل رقمًا صعبًا في حياتي كلها.

وحينئذٍ قمْتُ مُقبّلًا جبينَها، والبسمةُ ترتسمُ فوق شفاهِها، وحمدْتُ الله أنْ رزقني أمًّا علّمتني أن أكون رقمًا مُهمًّا في الحياة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights