لحظة في الهدف والمصير
هلال السليماني
يتقلب الإنسان في هذه الحياة بين ميوله ورغباته بنسب متفاوته، كلّ حسب نشأته وتكوينه.
يتسع العالم من حوله شيئاً فشيئاً، هموم وأفكار تعتمل في صدره وتستحوذ على فكره وعقله ووجدانه، ولا يكاد ينفكّ عنها. تلاحقه في مسيرة حياته بُعداً أو قرباً، بحسب درجة الميول ومدى الاهتمام قد تسوقه الشهوات سوقاً إليها وقد تردعه نوازع المجتمع، تذهب به رغباته أيّما مذهب، ويستوقفه عقله حيناً في محطات التأمل، ينجرف تارة ويستقر تارة أخرى، يتأرجح بين الخوف والرجاء، تتقاذفه أمواج الحياة يمنةً ويسرة.
يقول الله تعالى في سورة البلد:
“لقد خلقنا الإنسان في كبد”، فلا يكاد يستقر حتى تضطرب أفكاره؛ فيبدأ مرة أخرى في البحث والانخراط في مغامرات الحياة مدفوعاً بتلبية الاحتياجات والاهتمامات، والعليم الحكيم يصفُ هذا الأمر بقوله:
” بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ ” (سورة الروم)
قد يدرك بعد متاهة البدايات وبعد نضج التجربة؛ أنه لا بد من قيادة نفسه وترويضها حسب تنظيم سُلّم الأولويات، وأن التوازن هو عنوان المرحلة دونما تفريط أو إفراط؛ لتستيقظ حينها ملكات بناء الذات على قواعد راسخة أفرزتها الحياة والتجربة.
ولمّا كان الإسلام قد جنّب أتباعه متاهة البدايات المتعسرة؛ حتى تنفتح مسارات الحياة ودروبها على هدىً ومنهجية يدركها الصانع لصنعته، كما اقتضت منظومة الكون والإنسان فإنه قد أشار إلى ذلك عبر الكتاب الحكيم:
” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”، وبهذا تجلت رسالة الإنسان في الحياة ولم يتركهم “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” وهؤلاء ما أدركوا شيئاً غير الدنيا ومجالها المادي الصرف؛ فانغمسوا فيها، يأخذون من ملذات الحياة وزخرفها ما يشبع نهمهم، كلّ حسب قدرته وطاقته، يغذي إدمان الحياة في ذاته، وما استوعب المغزى والهدف، وما وصل إلى حقيقة الوجود.
الحكيم العليم أراد من الإنسان تجاوز هذا الأفق المادي إلى فضاء أرحب بامتداد هذا الكون الذي لا نعلم منتهاه؛ ولأن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، فليس من العدل أن تكون الحياة الدنيا وحدها دون وجود حياة أخرى تُنصب فيها الموازين ويعاد الحق لأصحابه الذين فقدوه في لحظة طغيان الإنسان على أخيه الإنسان ولم يقرأ قول الحق تعالى:
” إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”.
الاختبار صعب وبحاجة إلى إعداد واستعداد حتى يعبر هذا الإنسان حاجز الشك في الدنيا إلى نور اليقين بالآخرة.