معاني الرحمة في ذكرى مولده
هلال السليماني
تأتي ذكرى مولد المصطفى نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في لحظة فارقة من تاريخ الأمة التي تمزقت، ولم يبق من وحدتها إلا قطع متناثرة يعضّ بعضها بعضاً على مصالح ضيقة، وما فهمت من رسالة الإسلام شيئاً، إنها الحقيقة التي ينبغي أن ندركها ونحن في هذا العالم المتلاطمة أمواجه بالعنف والاضطراب، كل يبحث عن السعادة على حساب الآخر، ولو قرأ آية واحدة من كتاب الله بصدق لما وصل إلى ما وصل إليه – {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ …..}- فالرسالة واضحة منذ مجيئه عليه السلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وفي المجتمعات العربية تتفشى الانتهازية والعداوات، وتتوارى المروءة والفضيلة رويداً رويداً، حتى لكأنّ الرسالة لم يبق منها شيئاً.
في المجتمع المدني المسلم الذي نشأ في المدينة أراد المصطفى أن يقدم أنموذجا لصورة المجتمع الذي ينبغي أن يكون مجتمعا متراحماً يشدّ بعضه بعضا، في صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فكان. ونحن ندين بدين الإسلام السمح نقرأ تعاليمه صباح مساء، ونلقنه لأطفالنا في المدارس ولأبنائنا في الجامعات، نحضر الجمع والجماعات وما بقي من إقامة الصلاة بعد تجاوز عتبة المساجد شيئا. أي روح تموت وأي نفس طيبة تتلاشى في لحظة حجاج بين أخ وأخيه، وصاحب وآخر على اختلاف الرؤى.
من يوم مولده الكريم كان حرصه على الوئام والتعايش. حكّمهُ كبار قريش في خلافهم على من ينال شرف رفع الحجر الأسود؛ فكانت عبقريته الفذة في إيجاد الحل والتوافق منقذاً لهم من التناحر. أعطى للبشرية مفاتيح التعايش، وعلم الإنسان كيف يعيش في طمأنينة وسلام مع أخيه الإنسان، ومع محيطه، ومع الحجر والشجر، والدواب والطير. إنه الرحمة المهداة التي تنافس هذا الإنسان في غمرة بحثه عن تحقيق ذاته، ولم يبق من رسالة محمد عليه السلام التي نشرت ضياءها وأشرقت على الدنيا بتعاليم سمحة، نزعت نوازع الذاتية التي طغت حينها على حياة الجاهليين، واستوطنت فكرهم وصارت عقيدتهم الراسخة، وكانوا يتفاخرون بها كما يرى ذلك عمروبن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
نوازع ركبت في عقلية البشر يتقاتلون من أجلها ومن أجل عصبية رعناء، لم تبق لهم من ريحه شيئاً ولا ترى للرحمة مكاناً، ولا إلى التصالح سبيلاً، حتى تلك الأصوات التي انبثقت هنا وهناك في سبيل تعزيز عرى الألفة والمحبة كانت نشازاً، ولولا أن بعض الحكمة ظلت تحوم في لحظات اليأس لتفانى الجاهليون في (داحس والغبراء) وغيرها من المواقع المؤلمة، غارات وحروب أهلكت الحرث والنسل فكانت كما صورها زهي:
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تنتج فَتُتئِمِ
ما أحوج البشرية إلى نبي الرحمة في ذكرى مولده تستقرّ بتعاليمه وسيرته معاني السكينة والاطمئنان في القلوب، وتتجسد واقعاً تعيشه الأمة في مرحلة من مراحل التشظي والفرقة.
لكن السنن تتبدل والأغيار تأتي وتذهب.