سميحة الحوسنية
كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساءً عندما هاجمت الحمى (غريب)، وقد دار صراع بين عافيته وجحافل الخمول والرعشة التي تسري في جسده وقد خارت قواه، فخاض معركة البقاء حتى كاد العرق الذي يتصبب منه أن يغرق سريره، فكان مساءً مختلفًا بتفاصيله، متعبًا أجثم بثقله على جسده النحيل.
كان (غريب) يمضي فترة المساء في حارته الساحلية، فلا تحلو مساءاته إلا بالجلوس أمام (مقهى عزوز) لشرب شاي الكرك، والرمسة مع الأصدقاء والجيران إلى أن تطفئ قناديل الشارع أنوارها، وتبدأ القطط بالبحث عن فتات الطعام وكسرات الخبز، وهناك يتحلق الجميع لممارسة لعبة الورق والتحدث في الكثير من أمور الحياة، فكانت ضحكته مميزة ذات إيقاع فكاهي. وقد طبعت بصمات بعض أنامل أصدقائه على كتفه عندما يطيل قهقهته التي تنسيه متاعب حياته.
(غريب) الذي يبلغ من العمر 66 سنة ولم يتزوج، كان يتقاضى راتبًا تقاعديًا يعينه على الحياة ومتطلباتها، وقد كانت قريته ببحرها ونقائها عالمهُ الذي يعشقه، فلم يغادرها البتة إلا عند تأدية مناسك الحج، والتي كانت بالنسبة له أجمل رحلة في حياته.
في تلك الليلة الحارة المفعمة بالوجوم لم يكمل(غريب) سهرته بسبب الخمول والصداع الشديد الذي أصابه، فكاد أن يفقده خارطة المنزل، ففضَّل مغادرة المقهى ليعود إلى بيته، ولحق به الحاج (ربيع) حاملًا في جيبة حبات من (الأدول) لتخمد براكين الصداع الذي يعاني منه.
وفي تمام التاسعة دق جرس المنزل ليخرج (غريب) بخطواته المتخبطة لفتح الباب، وقد بدأت علامات الإعياء تظهر على وجهه، ولكن يبدو أنه بحاجة إلى النوم، فشكر الحاج (ربيع) على جلبه ل(الأدول) لعله يهدئ أمواج الألم التي تتقاذف على عافيته يمنة ويسرة . لتبدأ رحلته مع هذا الفيروس الذي طاله (غريب) عندما دخل أحد المحلات التجارية للتبضع ليحمله معه، ويدخل به في داره، وليصافح (غابش المهبر ) الذي أتى من ولايته لرؤية ابنته (صالحة) التي انزلقت عند باب المنزل لعلاجها، فدعاه (غريب) للعشاء ولم يعذره، وتقديرًا من (غابش) ل(غريب) قبل عزومته.
ومضى يومان على العزومة حتى شعر (غريب ) بهذه الأوجاع والآلام التي كبلت جسده.
لم يخرج (غريب) من بيته، فقد اشتدت عليه الحمى التى عصرته، فغدا شاحبًا أصفر الوجه، منطفئ الابتسامة، فهرع الجميع لرؤيته والاطمئنان عليه في المساء، فوجدوه ساقطًا من على سريره وهو يهذي من الحمى، فتم نقله إلى المستشفى.
مضى شهر والحزن يرسم ألوانه القاتمة في وجوه الرامسين على (مقهى عزوز)، فالكل قلق على حالته. رنَّ هاتف (جمعة) الذي ترك رقم جواله لدى إدارة المستشفى للتواصل معه لمعرفة حالة (غريب) الذي قدم من الباطنة منذ سنوات بعيدة، فعاش تفاصيل حياته وطفولته في تلك القرية التي تزوجت فيها أمه بعد وفاة والده وأمضى سنين عمره فيها. صمت الجميع عندما أخبرهم (جمعة) بأنه رقم المستشفى، فالكل يترقب الخبر السار، وانهالت الأدعية من قبل الحاضرين (أن يشفيه الله ويعوده بخير وعافية، وأن يخرج من العناية المركزة)، ولكن كانت المحادثة حزينة، فقد انهار (جمعة)، وبدأت دموعه تتساقط كزخات المطر موجعة، كقساوة الفقد والرحيل فتلعثم لسانه، وبدأت الحروف المتخبطة تخرج بدون نقاطها، فأيقين الجميع أن هذه المكالمة تحمل أخباراً غير سارّة، فنظرات (جمعة) أخذت تتقاذف كالسهام عليهم. لقد ساءت حالة ( غريب) كثيرًا وفعلنا كل ما بوسعنا، ولكن كانت المنية، لقد توفي وادعوا له بالرحمة والمغفرة. صرخ أصحابه وأمطرت السماء حزنًا على فراق كافل الأيتام، وصاحب القلب الكبير، وحافظ القرآن.
غادر الجميع المقهى وقد اغرورقت عيونهم بالدموع ليحضروا المشهد الأخير من فصل حياة (غريب). توفي غريب ولروحه السلام.