يوميات متقاعد
خلفان بن ناصر الرواحي
لقد قرأت في إحدى المصادر أنه ورد في كتاب أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية، وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ما يشير إلى أنَّ أول من سنّ التقاعد هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك استنباطاً من موقف حدث في زمن الفاروق رضي الله عنه بينما كان يمر يوماً في سوق المدينة المنورة، فرأى شيخاً كبيراً يسأل الناس ويتسول طالباً المساعدة، فاقترب منه الفاروق رضي الله عنه وسأله من أنت يا شيخ؟ فقال الشيخ الكبير: أنا يهودي عجوز، أسأل الناس الصدقة لأفي لكم بالجزية ولأنفق الباقي على عيالي. فقال عمر الفاروق متألماً: ما أنصفناك يا شيخ، أخذنا منك الجزية شاباً ثم ضيعناك شيخاً، ثم أمسك الخليفة عمر بيد ذلك اليهودي وأخذه إلى بيته وأطعمه مما يأكل، وأرسل إلى خازن بيت المال وقال له: افرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله، فخصص له راتباً شهرياً يكفيه ويكفي عياله من بيت مال المسلمين، وأوقف عنه الجزية إلى الأبد. فكهذا إذاً حين يحل العدل يحل الإنصاف، والعدل أساس الملك، ومن يقولون أنَّ ألمانيا هي أول من سنً التقاعد فهم يجهلون التاريخ الإسلامي المشّرف، ويتجاهلون أهمية التقاعد ودور المتقاعد في المجتمع، وأصبحت الأوراق مخلوطة ومغلوطة في سرد التاريخ، وقيمة وأهمية التقاعد.
لقد سردنا هذه المقدمة مِن باب الاستئناس والتعريف بأصل سنيِّة التقاعد في العهد الإسلامي، فبغضِّ النظر عن هذا الأمر من حيث أساس سنيّته وتاريخه، فإنَّ موضوعنا يتعلق بيوميات المتقاعد، فنرى البعض وللأسف الشديد قد فهم الأمر خطأً من حيث الواقع الواجب أن يكون عليه المتقاعد، وكيفية تسخير يوميات المتقاعد بعد عناء السنوات التي قضاها في عمله في الخدمة، وانتشرت المقاطع والمنشورات الساخرة عن يوميات المتقاعدين، وكأن ذلك هو الواقع على وجه العموم في نظرتهم القاصرة والدونية، ووجد أمثال هؤلاء من يروّج لهم ذلك المفهوم بشتى الوسائل المعروفة، ويزيد عليها البعض بعضاً من الكلمات التي لا تمثل سلوكيات مجتمعاتنا الإسلامية، وبعيداً كل البعد عن أخلاقياتنا الفاضلة، وتمس بالعديد من المتقاعدين الذين عرفوا معنى التقاعد وكيفية قضاء يومياتهم فيما هو مفيد، ونصبَّ أمثال هؤلاء المغرّضين أنفسهم لتشخيص يوميات المتقاعدين وكأنَّ المتقاعدون أصبحوا عالة على الأسرة والمجتمع وبدون فائدة!.
لقد تجرأ البعض أيضاً على نفسه ليصف نفسه بأنه أصبح لا قيمة له، وجزأ كلمة متقاعد إلى ” مُت قاعد” أي كأنه حكم على نفسه بالموت المؤقت بالقعود في المنزل، وكأنّه أصبح بلا فائدة لأسرته ولمجتمعه وللأمة على وجه العموم!، فأصبح الكثير ينظر إلى التقاعد والمتقاعدين جميعاً بهذه النظرة التشاؤمية السوداء، وهذا أكبر خطأ يقترف بحق المتقاعد ومجتمعه، فكل مرحلة من مراحل حياة الإنسان أودع الله فيها النقيضين التفاؤل والتشاؤم، والسعادة والفرح، والجمال والقبح، وأعطاه العقل ليتجنب أسوأ الأمور ويختار ما يسعده، ويستثمر الأوقات ويعيش جمالها. فلو أخذ الإنسان من كل مرحلة عاشها منذ الطفولة إلى مرحلة الشيخوخة ما يستطيع من جمالها، وابتعد بقدر ما يستطيع عن قبحها؛ سيجد نفسه سعيداً في كل مراحل حياته. فمن مرحلة الطفولة يأخذ البراءة، ومن الشباب الصحة والحيوية والنشاط والإبداع، ومن الشيخوخة الخبرة ورجاحة العقل.
لقد تم تشويه صورة المتقاعد، وكأنه أصبح بين الآمر الناهي في البيت وعالة على الأسرة، وفي صورة أخرى فقط يأكل وينام، أو يشاهد الأفلام والمسلسلات أو المباريات، أو يقضي وقته في اللهو والسهر فيما لا فائدة فيه، وربما جعلوه في مشهد مضحك وساخر أو مخلاً بالآداب، ولم يدرك أمثال هؤلاء أن التقاعد يعني اكتمال التجربة والخبرة، والانتقال من حياة العامل إلى حياة المفكر، ومن حياة المتلقي إلى حياة المساند، لهذا فإن التقاعد هو الوقت الذي ينبغي ملؤه بعدة أمور بما يتناسب مع قدرات وميول كل شخص، كأن يبحث عن عمل إن كانت عنده رغبة العمل بما يتناسب مع ميوله وخبرته وعمره، أو ممارسة هواية يخرجها للناس ويشاركهم بها، ولا يمارسها لنفسه أبداً فقط لأنها ستساهم في عزلته، كالقراءة والكتابة أو الرياضة أو أي هواية أخرى يحبها ويستطيع الإبداع فيها ليعوِّض ما فاته. كما أنَّ عليه أن يتذكر بأن عليه دين لأسرته وأقربائه ومجتمعه لرد الجميل.
فعلى كل متقاعد أن يخرج إلى الحياة من جديد؛ فهناك طرق عديدة للخروج للحياة مرة أخرى بشخصية جديدة، وبلباس جديد، ونشاط جديد، ولكن يحتاج ذلك إلى قرار شجاع للخروج وتكسير قيود اليأس التي تكبل الإرادة، والبعد عن التشويه المفرط المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع، وليثبت كل متقاعد دوره وقيمته الحقيقة من جديد، ولنقل لكل متقاعد؛ أيها المتقاعد… أنت ما تزال حياً فاستثمر الحياة، وعشها بجمالها وسعادتها، وكن عضواً فاعلاً في المجتمع حتى لا تحشر نفسك في العزلة والكآبة والملل.