2024
Adsense
مقالات صحفية

مفهوم التغيير والتأثير في التنمية البشرية

صالح بن محمد خير الكعود
باحث وطالب دكتوراه في تنمية الموارد البشرية
الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا

في رحلتنا لاستكشاف كوننا الداخلي، كان لا بد أن نتطرق إلى مفهوم التغيير والتأثير في التنمية الذاتية والبشرية. يهدف التغيير بمفهومه العام إلى تعديل فكر الإنسان أو معتقداته جزئياً أو كلياً وبالتالي تعديل سلوكه بما يتوافق مع أهدافه وتطلعاته وبما يواكب ويناسب التطورات في بيئته المحيطة. ونقصد بالتغيير هنا، تغيير الفكر أو الاعتقاد بتغيير الفكر السلبي الذي يعيق تقدم الإنسان في رحلته في هذه الحياة. وأما التأثير فهو أيضاً تغيير ولكن تغيير يهدف إلى تغيير الغير، فإذا اعتبرنا أن التغيير يهدف إلى تغيير النفس فإن التأثير يهدف إلى تغيير الغير.
إن كل علوم التنمية البشرية والذاتية وفنونهما تدور في فلك التغيير والتأثير، ففن التخطيط الشخصي، إدارة الوقت، إدارة الذات واتخاذ القرارت…إلخ تدخل ضمن دائرة التغيير؛ لأنها تستهدف الإنسان نفسه، بينما يدخل فن الإقناع، فن الحوار، فن الإلقاء، فن التفاوض وفن التحفيز…إلخ في دائرة التأثير لأنها تستهدف الآخرين.
يمكن ربط مفهوم التأثير والتغيير في الجانب الروحي أيضاً من خلال سورتين في القرآن الكريم، سورة العصر وسورة الفاتحة. في سورة العصر ذكر الحكيم سبحانه أربعة مبادئ للنجاح والفلاح، حيث أقسم سبحانه بالعصر وهو الزمان كما ذكر الشرّاح، إنّ الإنسان خاسر ولا بدّ إلّا إذا اتسّم بأربع سمات، وهي:” إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” سورة العصر.
ويمكن تحليل هذه السمات وتقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول يقع ضمن دائرة التغيير وتشمل صفتَي الإيمان والعمل الصالح، والقسم الثاني يقع ضمن دائرة التأثير وتشمل صفتي التواصي بالحق والصبر على إيصاله.
القسم الأول: دائرة التغيير وهنا لا بد أن يتصف المؤمن بصفتين رئيستين،
صفة الإيمان: المبني على العلم والمعرفة، لذلك أول آية أُنزلت على رسولنا الكريم كانت اقرأ، فنحن أمة اقرأ، فلا بد للمؤمن من معرفة تدلّه على الله سبحانه وأسمائه وصفاته، ثم يتعرف على شريعة دينه وأحكامها، ويضبط سلوكه وفقهه لما فيه خيره وصلاحه في الدنيا والآخرة.

صفة العمل الصالح: وهو العمل المبني على المعرفة والعلم الصحيح، فغاية العلم العمل.

القسم الثاني: دائرة التاثير:- وهنا أيضاً لا بد للمؤمن أن يتصف بصفتين رئيستين:
صفة التواصي بالحق: وهنا عندما تكتمل دائرة التغيير عند المؤمن ويصبح صالحاً بنفسه، يصبح هنا مؤهلاً لأن يكون قدوة لغيره، ويبدأ بنقل المعارف والعلوم والتجارب التي تعلمها وجرّبها إلى مجتمعه، وهذه هي دائرة التأثير، فلا بد أن ينتقل المؤمن من دائرة التغيير إلى دائرة التأثير، ومن مرحلة أن يكون صالحاً بنفسه إلى أن يكون مصلحاً لغيره، من مرحلة الكمال في النفس إلى مرحلة تكميل الغير.

صفة التواصي بالصبر: وهذه الصفة تخبرنا أن عملية الإصلاح في النفس والتواصي بها للغير تحتاج إلى مكابدة ومجاهدة ومصابرة، ففي الحديث الشريف “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن).
ومن الإشارات القرآنية الملتقطة من كتاب ربنا العظيم في سورتي الفاتحة والعصر:
– إن الصفات الأربع مرتبة ترتيباً دقيقاً، فيبدأ الإنسان أولاً بتوسيع دائرة معارفه وعلومه، ثم يطبق ما تعلم، وهكذا تكون دائرة التغيير قد اكتملت في نفسه فأصبح مؤمناً صالحاً في نفسه، ثم ينتقل إلى دائرة التأثير بنقل المعارف والعلوم والتجارب لتكمل بهذا الدائرة الثانية وهي دائرة التأثير فيصبح مؤمناً مصلحاً لغيره.
– إن الإنسان يكون صالحاً بنفسه (تغيير) إذا استكمل صفة الإيمان القائم على العلم، وصفة العمل الصالح وفق العلم والمعرفة، لأنهما تدوران حول الإنسان نفسه، فإذا تخلف أحدهما عن الأخر حاد الإنسان عن الطريق المستقيم. قال سبحانه في سورة الفاتحة ” اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين “. فالمغضوب هم الذين علموا ولم يعملوا بما علموا، فغضب الله عليهم لتركهم العمل مع وجود العلم والمعرفة عندهم، فهنا قد قالت الحجة عليهم لتوفر عنصر العلم فلا عذر هنا. وأمّا الضآلين وهم الذين عملوا من دون علم فضلّوا الطريق، وهنا برزت مسألة العذر بالجهل، وهي مسألة اختلف عليها العلماء كثيراً حول تساؤل هل يعذر الإنسان بجهله؟ وهي مسألة كبيرة تحتاج إلى بحوث عميقة ليس المكان مناسباً للبحث بها هنا. وبناءً على ما تقدم قوله نستطيع القول أن هناك طريقاً واحداً مستقيماُ وهو طريق الذين أنعم الله عليهم، وهم الذين اتصفوا بصفة العلم والعمل بالعلم الذي اكتسبوه.
– إن الإنسان يكون مصلحاً لغيره ( تأثير) عندما يتصف بصفة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فتكتمل بهما دائرة التأثير.
– أن لا يستعجل المؤمن في بدء رسالته في الحياة إلاّ بعد أن تكتمل دائره التغيير عنده ويكون صالحاً في نفسه، قال الحق سبحانه ” يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون” وهنا نرى أن ربنا جلّ وعلا ذم أصحاب هذا المسلك، الذين يدعون إلى خُلق ويأتون عكسه.
– إن صلاح البشرية هي أعظم رسالة قد يحملها أيّ إنسان، لهذا كانت أسمى رسالة على مرّ التاريخ، وُقيّض لها خير الخلق وهم أنبياء الله ورسله والصالحين من عباده.
– إن رسالة المؤمن تشمل خيرَي الدنيا والآخرة، فالإنسان المؤمن إنسان مستقبلي بطبيعته، يؤمن ويعمل لحياة أخرى دائمة وباقية ومتصلة تربط الدنيا بالآخرة.
– إذا عرفت ما سبق انكشف لك فضل العالم على العابد، فالعابد كالقمر الذي يقتصر نوره على نفسه، فهو في دائرة التغير فقط، وأمّا العالم كالشمس التي تضئ نفسها وما حولها، فهو انتقل من دائرة التغيير إلى دائرة التأثير.
فتبارك الذي أنزل الكتاب على عباده ليكون لهم نوراً وضياء ودستور حياة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights