ثلاثة ريالات
غزلان البلوشي
تمر الأيام في العمل كأي يوم، قد تواجه وجوه جديدة وقد تتكرر معك الوجوه، وبحكم عملي كممرضة تعمل في كل جهة تباشر عملها وعلى حسب الأوضاع ما بين ازدحام ووقت ذروة.
وبسبب وضعي الصحي طلبت أن أنتقل إلى أحدى العيادات الخارجية لفترة معينة وقتها من دون ذكر اسم العيادة، تعودت أنا وزميلاتي أن نجتمع أول الصباح لنحضر وجبة الإفطار قبل حضور المرضى، لنفطر معاً وبعدها نباشر عملنا، إلا أنه يوجد مريض واحد يأتي مبكراً جداً قبل أن نفتح العيادة، هو شيخ كبير في السن طيب الملامح مبتسم ولا يتحدث كثيراً، يتكرر المشهد في كل موعد له، ولأننا نحن طاقم التمريض بالعيادة نجتمع معاً لنفطر وكنت أشاركه بما هو موجود، وكما يقال “جود بالموجود”، إلا أنه يوماً ما جلسنا معه نسأله لماذا يأتي مبكراً جداً قبل فتح العيادة، فرد علي أنه لا يجد من يوصله والشمس حارة، فقد كان في فصل الصيف حراً شديداً ورطوبة لا يتحملها حتى الطير، وفي كل مرة يتحدث معي بإرتياح وسرور، كأنه فقد الشعور في فتح قلبه لأحد أو حتى فقد الثقة بأن يتكلم.
وفي إحدى المرات وعلى موعد اللقاء وهو سعيد جداً بأنه موجود بيننا قال لي أن الله رزقني إثنى عشر ولداً، ومعي أملاك وخير وأراضي والحمد لله، وقد قررت أن أتزوج لكوني رجل شيخ كبير ولا أرى جيداً ولا أقوى على العناية بنفسي وأم أولادي فارقت الحياة منذ مدة.
كنت أستمع إليه ومتشوقة إلى معرفة ماذا حدث بعد ذلك، ليكمل حديثه عن أبناءه بقوله؛ “عندما قررت أن أجتمع بهم لأحددثهم بقراري، طامعاً تفهمهم وقبول قراري ومساندتهم، ولكن تفاجأت بردهم القاسي لي إذ طلبوا مني أن أكتب الأملاك والأموال وكل ما أملك بأسمائهم”، لأن رأيهم إذا تزوج أبوهم وأنجب سوف يشاركونهم في الميراث.
كان يكمل قصته وهو في حرقة بما حدث إذ يكتب ميراث لأولاده وهو حي يرزق من دون أن يراعوا وضع أبيهم الصحي، وفي نفس الوقت لم أجد ولا مرة أحدهم أتى معه ليحضره لمواعيده، كان يأتي بنفسه أو مع جاره فقط.
كان يشرب الشاي الذي كنت قد جهزته له ويكمل قصته بعد ذلك ليقول لي؛ “لقد تزوجت فتاة ولكن لم أرتاح ورزقت بولد منها، لم تكن كما أريد بأن تكون عوناً لي ولحالي”، ويصف أولاده أنهم لم يكونوا بارين لأبيهم الشيخ الكبير إذ كلما طلب منهم كان ردهم هذه هي زوجتك فأنت لست بحاجة لنا.
ولحظة هدوء وصمت أجد دموع حارقة على خديه، كحمل ثقيل عندما فتح قلبه، ليس سهل بما يمر به، فالكل يفكر عندما يرزق بالذرية بأن يكونوا على حسن الظن بهم وسند لهم، ولكن البعض قد تنقلب عندهم الموازين عندما ترزقون وتتمنون ولكن ليس كل ما تتمنى يتحقق.
كالعاده نلتقي به وهو اللقاء الأخير الذي صدمه طبيبه بأن يحوله إلى مستشفى آخر، ليأتي إليّ حاملاً ثلاثة ريالات في يده ليعطيني إياها وهو يبكي لأنه لا يملك غيرهن، فقد رأى تقديم وجبة بسيطة جداً وكوب شاي -وهذا لا يذكر أبداً-، إلا أنه يراها شيء عظيم، فالشعور بالراحة والاهتمام وبالسعادة عندما يأتي إلى العيادة، هذا كله سوف ينتهي، لأنه لن يأتي مرة أخرى.
كنت مذهولة وهو يمد يده لي ليعطيني ثلاثة ريالات وهو يبكي حزناً وأسى لأننا لن نلتقي مرة أخرى به مما أبكاني كثيراً، كان طيباً جداً، ولأني وجدت نفسي قد جعلته سعيداً رغم ما قدمته يعتبر عملاً بسيطاً لا يذكر.
انجبرت في أخذ المبلغ لأرضيه فقط، لأنه أصر أن يعطيني إياه ليشعره بالارتياح، وشاح عن ناظري، ولم أعد أراه ولكن بقي في ذاكرتي، لقد كان في عام 2008م وإلى الآن وأنا أتذكره، لأتعلم أنه لا يوجد من يساندك لا ولد ولا صاحب ولا مال، إن ذهبت الصحة، تبقى وحيداً في وسط العالم الموحش.
ثلاثة ريالات مبلغ من شيخي الطيب الذي أتذكر ملامحه وتجاعيد خطوط وجهه ودموعه لأنه لا يملك سوى ثلاثة ريالات، رغم إني لم أقدم له شئ يذكر، ولكن بنظره لم يقدمه أقرب الناس إليه، أتذكره عندما يردد لي أرجوك خذيها لأرتاح.
صحيح التمريض أن تعمل في مجال الرعاية والاهتمام بالمرضى مما يتطلب منا وكما تعلمناها، ولكن نتعلم من قصص مرضانا ونساعدهم في تحسين نفسيتهم ونشعرهم بالراحة، وإننا قريبين منهم ونلامس مشاعرهم، قد نجدها عادية لكن لا نعلم كم دعوة من قلوبهم إلينا لتصل إلى السماء بفعل عمل بسيط. هو في نظرهم شيء عظيم؛ فالتمريض ليست مهمنة بل الإنسانية.