سميحة الحوسنية
في محطات الحياة يقف المغادرون والقادمون يلوحون بأياديهم قبل بدء انطلاق القطار، وقد ظهرت على بعض الوجوه علامات الفرح والترح؛ منهم من يستقبل أحبابه بعد رحلة غياب ومنهم من يودعهم بحرقة الصبابة والعذاب.
الحياة كانت تبدو كزورق خشبي تتقاذفه الأمواج في بحر الأوجاع في عالم الغربة الموحش الذي بدأَ ينهش في صحة (آتيا) التي تعمل كخادمة منزل منذ سنوات متنقلة بين دول الخليج، فقد ترهلت أنوثتها، فوجهها الشاحب الذي تحاول أن تخفي تجاعيده بإبتسامتها، ويداها التي تبدوان كأنها خشب جاف عند مصافحتها، وجسدها المنهك المنحني من ثقل المسؤولية التي خارت قواها.
(آتيا) التي عصرتها ظروف الحياة بقساوتها وأحداثها كانت سنوات الغربة قاتلة وتبدو كفك مفترس .. فكم كانت(آتيا) تعد الدقائق والساعات لتحظى بإجازتها للعودة إلى وطنها واحتضان أطفالها بعد رحلة طويلة في أحضان الغربة السوداء.
بعد أن أكملت الأربع سنوات في عُمان التي كانت وجهتها الأخيرة؛ عادت (آتيا) إلى بلادها وكانت فرحتها كبيرة جدًّا، فقضت بعض الشهور في كنف أسرتها، وكثيرًا ما كانت تتحدث في تجمعات نساء قريتها عن البلدان التي كانت تعمل بها كجمال الحياة فيها ومعاملتهم الطيبة، فكانت تأخذهن بأحاديثها الماتعة إلى عالم آخر لا يشبه معالم قريتهن الفقيرة، فكانت تغرس في نفوسهن حب السفر للعمل والكفاح للحصول على النقود لتوفير متطلبات حياتهن وإسعاد عوائلهن.
كانت لحظات سعيدة عندما اشترت لإبنها الكبير دراجة نارية، حين تجمّع أهالي القرية لرؤيتها شعرت بزخم كبير من السعادة؛ فهم يبادلونها الفرحة.
مضت الشهور بسرعة البرق فها هي(آتيا) تعد عدتها للعودة إلى أحضان الغربة لتسدد أقساط الدراجة ولتقوم بترميم تلك التصدعات التي بدأت ترسمها شيخوخة الجدران في منزلها القديم، ولكن شاءت الأقدار أن تتغير سيناريوهات حياتها .. عندما شعرت ببعض الآلام التي تغزو جسدها المتهالك لتصاب بالحزن عندما علمت بأنها مصابة ب(مرض السرطان) والذي جعلها تدخل في دوامة الكمد والشجون التي بدأت كبركان ثائر يحرق أزهار الفرح في حقول حياتها .. لتعود محمّلة بالأوجاع إلى قدرها المحتوم .. فتلقت العلاج لتكون الأدوية والعقاقير تخلد حقيبتها بدلًا من المساحيق وعلك الفراولة التي تحبها، لتبدأ رحلتها مع المرض والمعاناة.. وبعد مضي شهر من عودتها إلى تلك الأسرة التي تعمل معها أصابها الذبول والتعب، وسألتها مدام (أسماء) عن أسباب الخمول والأدوية التي تتناولها فأخبرتها أنها تعاني من مرض اكتشفته مؤخرًا في بلادها وأن الأدوية انتهت وتريد المزيد منها، فذهبت (أسماء) إلى الصيدلية ليقع عليها الخبر كالصدمة إن (آتيا) مصابة بمرض السرطان الذي أفقدها حيويتها، فأصاب الحزن (أسماء) لحال خادمتها التي عملت معها سنوات من الإخلاص والتفاني .. مضت الأيام و(آتيا) تعاني من غصص الألم وأوجاع المرض لتبدأ رحلة جديدة في حياتها عندما تجمعت أسرة (أسماء) لعيد ميلاد ابنها (هيثم) وبعد الحفل بأيام نهشها ذئب (كورونا) الذي انقض على صحتها وعافيتها، فكانت الحمى المرتفعة والوهن الذي جلدها بأسياط المعاناة لتتضاعف حالتها في غرفة العناية المركزة بعيداً عن أهلها وأولادها.. ترسم في تلك الغرفة وجوههم وذكريات اللحظات الجميلة معهم وتصغي باسمة لثرثرة أحلام النساء في قريتها الفقيرة .. صمتت الأجهزة بعد أن كانت وصيتها أن لا يحمل جثمانها لبلادها وأن تدفن في (عُمان) لفرحتها العارمة لاعتناقها الاسلام في هذا البلد الأمين. غادرت روحها وهي في غربة صقيعها الألم.. فلا مراسم وداع.. ولا قبلات عطرة على جبينها.
شاع خبر وفاتها، فكان بكاء القرية على (آتيا).. المرأة التي نطقت الشهادة فعطرت لسانها بتلك الكلمات.. رحلت عن الحياة بعد رحلة كفاح وشباب أفنته كطائر فينق يحلق في سماء الغربة.. فكان بكاء الفقد لتلك الروح الغالية التى غادرت المكان .. توفت (آتيا) ولروحها السلام.