زوارة من أرض النخيل
سميحة الحوسنية
يذكرني القيظ بتفاصيل الكثير من الأسر العمانية وتلك الحركة التي تدبُّ في المزارع وجمال تلك الأيام وما تحمله في جعبتها من ذكرياتٍ جميلةٍ حيث السواقي والنخيل الباسقات وأشجار المانجو والليمون والبيذام التي تتمايل وتتراقص مع حركة الهواء.
حرارة القيظ كانت لاسعة ونحن نحمل (القفير) وزجاجات الماء الباردة المثلجة والتي كثير ما كنا نتسابق على حملها لتُعينُنا على الحرارة التي تنهك قوانا طول الطريق.
كانت الساعة الرابعة عصراً، وقت الاستعداد للذهاب إلى (النخيل) بملابسنا الصيفية الفضفاضة وننتعل “الزنوبة”؛ لتساعدنا في الحركة والتنقل بكل أريحية، تارة نجري وتارة أخرى نتوقف قليلاً فحرارة الجو متعبة ولاهبة ولكن كانت بعض النسمات تأتينا محملة برائحة النرجس الأبيض كعروس ترقص على أوتار نغمات الحقول. كانت (أميرة) ابنة الأربع سنوات صغيرة تفيض ملامحها براءةً وهدوءًا تحب أجواء النخيل فيديها الصغيرتان تمسكان بطرف ثيابي، وبالرغم من حرارة الجو كان شوقها لمتابعة الفراشات والتقاط حبات البيذام البنفسجية المنغمسة في الطين؛ لتضعها في الحوض المملؤ بالماء البارد المنعش، فتغسلها وتمد رجليها الصغيرتان في الحوض وتحركهما فتسعدها حبات الماء وهي تداعب وجهها وجسدها الصغير.
كانت الجدة زوينة تنظر إليها كزهرة جلنمار برية تحب اللهو واللعب وشم زهرة الياسمين البيضاء ومداعبة الورد المحمدي، لتكون هديتها لوالدتها عند عودتها في المساء…، وفي لحظات مرحة كانت تخاف من “الدعسوق المشاكس” الذي كثيراً ما كان يلاحقها فترتمي في أحضان جدتها لتهدأ وتكمل مشوارها في التجول في أحضان النخيل…، بدأت الشمس تلملم خيوطها الشقراء وأمتعتها للرحيل، فوضعت الجدة زوينة (القفير) المملؤ بالرطب اللذيذ على رأسها وحملنا عنها بعض أكياس المانجو وأخذت تنادي الجميع “هيا لقد حان وقت العودة الى القرية” فكانت “أميرة” أول من يجري نحو جدتها وتمسك يدها خوفاً من ألسنة الظلام التي تبدو لها كشبح يخرج من وراء الأشجار …، فما ألذ حبات التين التي نتلذذ مذاقها الطيب طول الطريق! …، وما إن نصل إلى المنزل حتى تقوم “الحاجة زوينة” بتقسيم الرطب لأهلها وجارتها بينما تفلت “أميرة” أناملها المتشابكة مع أنامل جدتها؛ لمعانقة والدتها، فتقدم لها الوردة المحمدية زوارة من أرض النخيل، فتبتسم جدتها لبراءتها الطفولية.