قضية ثابتة
د . علي زين العابدين الحسيني
إنّ صورة المساجد الثلاثة المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى باقيةٌ في أذهاننا تحمل بين جوانحها قدسية خاصة في ديننا، فأينما حطت بنا المزار أو ساقتنا الأقدار فلا يمكن أن تغيب عنّا تلك الصورة المشرقة للمسجد الأقصى؛ لارتباط المكان بالإسلام والنبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم.
لن ينسى كلّ مسلمٍ صورة هؤلاء الآمنين المطمئنين في تلك الليالي المباركة في هذا الشهر العظيم الذي يقبل فيه المسلمون على مساجدهم، وينشغلون بأذكارهم، ويسالمون فيه غيرهم، لكن يأبى أهل الغدر أن يشاهدوا هذه الصفوف المؤمنة المتلاصقة ولا يعكرون صفو سعادتهم التامة، فاستباحوا بأفعالهم العدوانية حرمة الزمان وحرمة المكان في آن واحدٍ من خلال أذيتهم لهؤلاء النسك الطيبين.
ألا يعقلون!
ألا يدركون أن المسجد الأقصى لم يغب يوماً من الأيام من قلوب المسلمين!
ولن يغيب.
ذلك أنّ المسجد الأقصى مسرى رسولنا الكريم هو قضية أمة، وليس قضية فرد من الأفراد، أو شعبٍ من الشعوب، هو مسيرة طويلة من الصراع، صراع الحق مع الباطل، صراع أصحاب الأرض مع المحتلين، صراع الكرامة مع الذل، فلم يغب المسجد الأقصى يوماً من قلوب محبيه رغم دعوات التمييع المتتالية.
لا خيرَ فيك إن لم تعزز في نفوس أسرتك وأولادك مكانة المسجد الأقصى وقدسيته عند المسلمين.
إن المسجد الأقصى حاضرٌ حتى في حياتنا الأدبية، فلم تهمله الدراسات الأدبية المعاصرة، فذكر مؤرخو الأدب كثيراً من الشخصيات التي أثْرَت العالم الإسلامي بإنتاجهم الأدبي، وقد ترجم أستاذنا الكبير وديع فلسطين -أطال الله مهجته- لبعض الأدباء الفلسطينيين الذين زاملهم أو تعرف عليهم في القاهرة، إلا أنه لفت نظري تلك الترجمة الحافلة التي كتبها لعلمٍ من أعلام القدس الشريف ينتمي لعائلةٍ شريفة ِالنسب خرج منها كثيرٌ من العلماء، وكان فيها إفتاء بيت المقدس.
تحدث أستاذنا المؤرخ في كتابه “وديع فلسطين يتحدث عن علماء عصره” عن زميل الدراسة الدكتور إسحاق موسى الحسيني، فترجم له ترجمة عزيزة نادرة، وفي ثنايا ترجمته لهذا الأديب الفلسطيني ذكر من أفراد هذه العائلة زميل الدراسة الأستاذ إسحاق عبد السلام الحسيني، وسماحة الحاج المفتي محمد أمين الحسيني المشهور.
ها قد اختار الدكتور إسحاق موسى الحسيني لوناً آخر من ألوان خدمة وطنه وقضيته الأولى “فلسطين”، فاهتم بالجوانب الأكاديمية والثقافية؛ اعتقاداً منه بأن الثقافة هي سبيل التضامن العربي، فكانت فكرته التي يؤمن بها أن التضامن العلمي أو الثقافي لو تحقق عند مجموع الناس لاستطعنا أن ننزع حقوقنا بأيدينا، وأن نفرض على غيرنا إرادتنا؛ لاستخلاص ما ضيعناه بتفرقنا.
لأجل ذلك عاش على هذه الفكرة خارج القدس متنقلاً بين دولٍ شتى إلى أنْ عاد إلى القدس الشريف عام 1974م، فقد كانت أمنيته التي طالما يخبر بها أصحابه أن يعود إلى بيت المقدس؛ ليعيش بقية حياته بها، وحينما دخلها دخلتْ معه ألوان من الثقافة العربية الأصيلة، وأهدى للمدينة المقدسة مكتبته الخاصة، فكانت أكبر دليل على عدم استطاعة العدو طمس الهوية أو محو آثار التاريخ، أو غياب المعتقد.
قد يُظن أنّ إهداء مثل هذه الكتب ليس فيها كبير فائدة، وهي نظرة غير صحيحة؛ لأن الكتب التي حملها معه كانت تحكي تراث المسلمين وحضارتهم في القدس منذ العهد الأول، وبالتالي فهي تؤرخ أحداثاً تاريخية عن الأرض والمسجد والأسُر المقدسية، وتكذب بالأدلة ما يزرعه المحتل في عقول أبنائه أنهم أصحاب حقٍ، فوجود الدكتور إسحاق الحسيني كان دلالة قوية على أنهم باقون بهويتهم، مستمرون بحضارتهم.
وعن اللحظات الأخيرة من حياة هذا الأديب، فقد سجلها الأستاذ وديع فلسطين بقوله: “صارت أمتع مباهجه اليومية أن يتجول في صبيحة كلّ يوم في أرجاء بيت المقدس يستقبل الندى ورذاذ المطر، ويستروح ذكريات الماضي، تؤنس وحدته قدسية المكان وعواطف المواطنين، إذ كان سكان المدينة يرونه منطلقاً بقامته المهيبة، وقد حمل على رأسه تاجاً من الشعر الأبيض المرسل ولسان حاله يردد “القدس لنا”.
لقد أحسن هؤلاء البائسون لنا من حيث لا يشعرون في اختيارهم تلك الأيام الفضيلة؛ ليستفزوا مشاعر المسلمين، ويظهروا الوجه الحقيقي لهم، فيزداد المرء منا ارتباطاً وثيقاً بهذا المكان، ويجتمع الناس صالحهم وعاصيهم على محبة المسجد الأقصى وأهله حتى كانت جميع الدعوات من نصيب الأقصى، وأجلّ من ذلك وأعظم أنّ مَن تأثر منا بدعوات التمييع معهم أجزم أنه سيتخذ موقفاً مغايراً؛ لأن أفعالهم في هذه الأيام تجاه المسلمين أظهرت الوجه الحقيقيّ لهم.
ليس أسعد مِن هؤلاء حينما يرون أننا بعيدون عن الثقافة والعلم والأدب، غارقون في ألوان الجهل، عاكفون على الفرقة والاختلاف.
أَجلْ نحن بعيدون عن مسرح الأحداث، لكن باستطاعتنا توظيف أقلامنا في خدمة ديننا والحفاظ على مقدساتنا، وفيما شاهدناه وسمعناه في وسائل الإعلام كفاية لتحريك الأنفس لكتاباتٍ أدبية أو اجتماعية أو ثقافية تخدم المسجد الأقصى وقضيته، سواء كانت الكتابة شعراً، أو نثراً، أو مقالاً، أو قصة، أو رواية، أو ترجمة، أو تأريخاً للأحداث، وفي كلٍ خيرٌ.