2024
Adsense
مقالات صحفية

أيُّ العقول أنتَ؟

الدكتور: طالب بن خليفة الهطالي
Talib.oman@hotmail.com
Twitter: @TalibOman

ذكر الكاتب الجزائري مالك بن نبي:” لَكَم رأينا أناسا يتصدرون الحياة العامة، فيتناولون الأشياء لمجرد التفاصح والتشدق، لا لدفعها ناشطة إلى مجال العمل، فكلامهم هذا ليس إلا ضرباً من الكلام، مجردٌ من أي طاقةٍ اجتماعية، أو قوة أخلاقية، على الرغم من أن هذه القوة هي الفيصل الوحيد بين المواقف الفعالة الأخلاقية والمادية”.[1] لقد خلق الله الإنسان وميّزه عن باقي المخلوقات بالعقل الراجح الذي يستطيع من خلاله التمييز بين الحق والباطل والخير والشر والسار والضار، وقد عرّف الباجي العقل بأنه:”العلم الضروري، الذي يقع ابتداء ويعم العقلاء” وذهب [2] ديكارت أن:” العقل هو أحسن الأشياء توزّعاً بين الناس بالتساوي …. إن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر..« [3].
ولمّا كان العقل مناط التكليف ومركز القوة، والحصن المانع، وهو الحلقة والمنظار الذي من خلاله ينظر المسؤول –القائد- إلى بيئة العمل، من خلاله تتضح له المعلومات التي تساعده على اتخاذ قراراته؛ ولا ريب أن العقول تتمايز في نوعها و تتفاوت في قدراتها من شخص لآخر، فقد نشرت مجلة هارفارد بزنس ريفيو (Harvard Business Review) دراسة عن وجود مجموعة من العقول القيادية التي يمكنها التعامل مع الآخرين وقدرتها على التغيير ونوجزها في الآتي:-
1. عقلية النمو والعقلية الثابتة: تقوم عقلية النمو على عدم الإيمان بالعقلية الثابتة التي تكون قادرة على التعليم والتطوير واكتساب المهارات وصقلها والتطوير الذاتي والجماعي، والشغف عند أصحاب هذه العقلية متجدد باستمرار. أما العقلية الثابتة فقد بيّنت عالمة النفس: كارول دويك (Carol Dweck) أن أصحاب هذه النوعية من العقول يتصفون بجمود الأفكار، وأن قدراتهم محصورة في نطاق معيّن، ويتولد لديهم الشعور بعدم القدرة على الانتقال إلى نشاط آخر وأنه غير مؤهل لذلك، وتقوم عقلية النمو على عدم الإيمان بالعقلية الثابتة.
2. عقلية التعلّم وعقلية الأداء: ويتمتع أصحابها بالعزيمة وحب التعلّم ورفع الكفاءة والسعي للتفوق والإبداع، بينما نجد أن أصحاب عقلية الأداء لديهم المكنة لتفادي الأحكام التي تتسم بطابع السلبية، وإذا ما نظرنا بينهما نجد أن كلا منهما مكمل للآخر، وأن صاحب عقلية التعلّم يكون أكثر استعدادا والمناسب لتولي المناصب القيادية خلاف الآخر.
3. عقلية التأني وعقلية التنفيذ: ويتضح من سياق الكلمة “تأنّي” أي تريّث، وصاحب هذا النوع من العقلية يكون بطبعه متأنياً متريثا في قراراته، كما أنه يتّسم بإمكاناته على جمع المعلومات المختلفة وفهمها وتحليلها لذلك تجد نسبة الخطأ في القرارات جدا ضئيلة، بينما صاحب عقلية التنفيذ ينصب اهتمامه في آلية التنفيذ ولا يكون لديه متسعا من الوقت للاستماع إلى معلومات أخرى يمكن أن تؤثر على سير عمله أو تؤخره، وهما أيضا مكملان لبعضهما.
4. عقلية الترقية وعقلية الحماية: وهنا نجد أن صاحب عقلية الترقية يعدّ من العقليات المثابرة الطامحة للفوز والنجاح والظفر، لأنه يولي جلّ اهتمامه في تحقيق أهدافه التي رسمها ويسعى سعياً حثيثا لتحقيقها، ولا يتوقف تحقيق طموحه عند حدٍ معيّن -حاله كحال عقلية النمو-، ولديه القدرة على مواجهة التحديات وتخطّي العقبات وتذليل الصعوبات وبذل الجهد لإيجاد الحلول لأي شيء يعترض تحقيق أهدافه، وهذا خلاف صاحب عقلية الحماية التي يسخر صاحبها طاقته في المحافظة على الموجود تجنّبا للمشاكل أو الخسائر، وهنا إذا ما قارنّا بين الإثنين نجد أن الأول يعتبر القائد الناجح بينهما.
والشرح يطول في تفصيل خبايا وأسرار العقول آنفة الذكر، ونخلص القول أن عقلية النمو والتعلّم والتأنّي والترقية هم الأفضل لتولي المناصب القيادية، وهي صفات القائد الناجح الحكيم، وهي الصفات المبينة في العقلية المذكورة صفات يمكن اكتسابها من خلال سبر أغوار العلم والثقافة والمعرفة والاطلاع والتعليم والعزيمة والممارسة اليومية، فالمؤسسة التي تفتقر للقائد الناجح، لا ريب أن مشوارها قصير ومآلها السقوط، إن الاهتمام بالعنصر البشري يعدّ من أهم أولويات الإدارة الناجحة التي تنظر إلى التطور والإبداع، فالموارد البشرية هي المحرك التوربيني لكل مؤسسة فنجاح المؤسسة وفشلها يعتمد عليهم، وليتحقق ذلك لا بد من تحريك الشغف الداخلي عندهم والاقتراب منهم والاستماع إليهم، وتحديد أعمالهم وتمكينهم منها، مع عدم إغفال الإشراف المستمر للرقابة العادلة والتوجيه الفعّال، وانتقاء الكفايات المؤهلة وتأهليهم وتطوير مهاراتهم ليكونا صفّاً ثانياً قادرين على الإمساك بدفة القيادة متى ما طلب منهم، ونخلص القول أن معظم البشر لديهم معظم هذه القعول وتكون قدراتها متفاوته وإمكاناتها محددة ولكن يكون هناك عقل واحد هو السائد فلننظر أين نحن منها؟.
وتجدر الإشارة أن هناك نجاح حقيقي وآخر مزيف؛ فالأول: يظهر من خلال اكتمال المنظومة المؤسسية الداخلية، والزيادة في معدلات الإنتاج والانتماء المؤسسي، أما الثاني: فهنا يمكن القول أن المؤسسة يمكن أن تحقق بعض النجاحات ولكنها نجاحات هشّة لا تمكّنها من الاستمرار، ويعود ذلك لعدم قدرة القيادة العليا على إدارة المؤسسة وضبط العملية الإدارية، وتوحيد الصفّ وجعل العدالة معياراً رئيسيا للمقارنة والمفاضلة بين أفرادها في الإنتاجية واحتواء المواقف [4]، فإذا انطفأ الشغف عند العاملين فذلك معناه وجود حلقة مفقودة يجب البحث عنها وسدّ فراغها، وهذا يقودنا إلى أن عامل العلاقات الأفقية والرأسية في المؤسسة له دور مهم وفعّال في نجاح العملية التنظيمية وٱكتمال الحلقات الداخلية فيها.
إن كل إنسان في الحياة لديه ثلاث علاقات، الأولى علاقته بذاته، والثانية بخالقه سبحانه وتعالى، والثالثة بالمخلوقين على اختلاف أجناسهم وقرابتهم ، فكمال كل إنسان بحسب علاقاته الثلاثة وكل نقص فيها يؤدّي إلى نقص في ذات الإنسان، لذلك إذا أردت السعادة والاستقرار فاسعَ لإصلاح هذه العلاقات الثلاثة وإكمالها، فالناس على أصناف: منهم من حسّن علاقته مع الله ولكنه سيء العلاقة مع المخلوقين، ومنهم من حسّن العلاقة مع المخلوقين ولكنّه خسَّر العلاقة مع الله، وأشقاهم من لم تكن علاقته حسنة مع الله و المخلوقين، ولقد جاء الإسلام بضبط هذه العلاقات وحسّنها دون الإخلال بأي واحدة منها، ولكمال كل علاقة من العلاقات الثلاثة سأذكر باختصار الطرق الموصلة لذلك، أما علاقة الإنسان بخالقه فكمالها هو الإحسان مصداقا للحديث النبوي المروي عن أبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بارزاً يوماً للناس، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ((…..، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك،…. إلخ))[5]، وأما علاقة الإنسان بالمخلوقين فكمالها بالأخلاق الطيبة والمعاملة الحسنة والصدق والإخلاص، وكمال الإنسان مع نفسه هو الاتزان في الشخصية، ولبيان العلاقات الثلاثة نوجز الآتي:
 أولا: الإحسان: في أربعة أمور وهي:
 إعمار القلوب: كالمحبة والإخلاص والخوف وٱجتناب مفاسد القلوب كالغرور والكبر والرياء والعُجب.
 الصلاة: المحاظفة على الفرائض بإتيانها في وقتها والتزام الواجبات والإبتعاد عن المحرمات.
 القرآن الكريم: كثرة تلاوته وتدبّر معانيه.
 الإقلاع عن المعصية: التوبة كلما وقع الإنسان في الإثم والزلل مع صدق العزم على عدم العودة مرة أخرى.
فبصدق النية والإخلاص في العمل يصل الإنسان إلى مرتبة الإحسان في عبادة الله تعالى.

 ثانيا: الأخلاق: ولتصل إلى كمال الأخلاق في المعاملة هناك أربعة أمور إذا ما ٱتبعها الإنسان يصل إلى مرتبة عالية في الكمال الأخلاقي مع المخلوقين، وكما قال الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت :: فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه :: فقوم النفس بالأخلاق تستقم..
إذا أصيب القوم في أخلاقهم :: فأقـــــــم علــــــــــــــــــــــيهم مأتما وعويلا.

والعناصر الأربعة هي:
 الاحترام: إن احترام الآخرين فنٌّ من فنون التعاملات البشرية، فالناس تحترم من يحترمها وتقدّر من يقدّرها كما قال الشاعر أبو الفتح البستي:
أحسن إلى الناسِ تَستعبد قلوبهم ::فطالما استعبدَ الإنسان إحسان

فالاحترام مفهومه واسع، ومنه تقبّل الآخرين، أفكارهم وآرائهم حتى ولو لم تكن مقتنعا بها، فالاختلاف في الآراء والقناعات لا يؤثر في الأصل على مستوى الاحترام والتعامل المتبادل.
 الكرم: ولا يقتصر مفهوم الكرم على الجود بالمال فقط بل يتعدى ذلك فالمشاعر الصادقة والعاطفة الجياشة والأحاسيس الصادقة ورقي التعامل، و هو جزء من الكرم.
 التغافل: خلق كريم وهو جزء من الحلم، قال الإمام أحمد بن حنبل: أن التغافل هو تسعة أعشار الخلق. فالإنسان جُبل على الزلات وإتقان فن التغافل عامل مهم لدوام الود والتواصل، فكما قيل: اسمع ثم ابتسم ثم تجاهل؛ إذاً التغافل لا ينم عن غباء الشخص بل هو تربية وعبادة، فمن أرقى شيم الكرام هو التغافل عن الزلات، كما قال الحسن البصري:” ما زال التغافل من فعل الكرام”، قال ابن الجوزي: “ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكَرام؛ فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء! فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعِب وأتعب”.
وورد في لامية ابن الوردي قوله:

وتغافل عن أمورٍ إنهُ :: لم يفزْ بالحمدِ إلا مَن غفلْ

 الحِلم: وهو من الصفات العزيزة قال لقمان الحكيم: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة : الشجاع في الحرب و الكريم في الحاجة و الحليم عند الغضب .
 ثالثا: الاتزان في الشخصية: وفيها أربعة أمور مهمة وهي:
 الموازنة بين القدرات والرغبات : أي أن توازن بين ما تستطيع وبين ما تريد، فإذا زادت القدرات على الرغبات أصبت بالملل وإذا كان العكس أصبت باليأس.
 الموازنة بين العقل والعاطفة: فلا تكن عقلانياً جامدا ولا عاطفياً ضعيفاً.
 الموازنة بين العلم والعمل: فلا تكن عالماً بلا عمل فتكون ( كالحمار) يحمل أسفارا، ولا عاملاً بغير علم فتقع في الجهل والخطأ.
 الموازنة بين الأخذ والعطاء: فلا تأخذ مطلقاً فتكون أنانياً،ولا تعطِ مطلقاً فتكون كالشمع تحترق من أجل الآخرين.

ملاحظة: عزيزي القارئ:
1. هذ المقال مرتبط في فحواه بالمقال المنشور في صحيفة النبأ بعنوان” توافق العقول” https://alnaba.news/?p=61613

المراجع:
1. أولربش بيك. مجتمع المخاطر. ترجمة جورج كتورة وإلهام الشعراني. بيروت: المكتبة الشرقية. 2009.
2. انظر: شرح الكوكب المنير لأبي البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي
3. مقال عن المنهج – رينيه ديكارت – ترجمة: محمود محمد الخضيري.
4. لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى المقالات الآتية:
صحيفة النبأ الإلكترونة:
https://alnaba.news/?p=51647
https://alnaba.news/?p=52473
https://alnaba.news/?p=53058
https://alnaba.news/?p=53623
التمكين الإداري، مجلة المجتمع والقانون، الادعاء العام، سلطنة عمان، ص 30 (https://online.fliphtml5.com/riuxd/txgv )
5. صحيح الجامع. خلاصة الحكم المحدث. الحديث رقم: 141931

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights