((لن أنسى تضحية أمي))
إلهام السيابي
مع غروب الشمس الدافئة، وخفوت نورها، ينبري هناك في الأفق نور آخر سيلمع نجمه في ذلك الصرح العلمي الثقافي المتميز، نور تربع على وجوه الخريجين الجدد من الجامعة، هي أجيال عقدت الهمم وتمسكت في تحقيق آمالها لتجني من ثمار عطائها المتواصل والعقل المتقد بالفكر والإبداع، أثمرت سواعدها عن اختراعات وأفكار وابتكارات، وتميز في طرح، وابتكار المشاريع الصغيرة لتنمو وتصبح من أكبر المشاريع الهادفة للمجتمع، وبرزت فيها الجامعة وتفوقت على مثيلاتها بالكؤوس المتميزة طوال سنوات دراستهم فيها، مما نال اهتمام كبار المستثمرين للتنافس للحصول على أي فرد من أفرادها، لرفع مستوى شركاتهم للنمو و لتحقيق نجاح مستمر، وليبقى منبر العلم مناراً للجميع، لكل من يلتجئ إليه ليكون فخراً للجميع بدون استثناء (( الأبناء َوالمعلمين)) كلهم أسرة واحدة، لتشع أنوارهم كسلسلة من النجوم المتتابعة والمتراصة ببعضها كجلوسهم بجانب بعضهم، منتظرين بشغف بدء فعاليات هذا اليوم المنتظر، في حين بدأت أفواج عديدة من الأهالي بالتوافد تباعاً، والجلوس على مدرجات الجامعة استعداداً لرؤية أبنائهم وهم يودعون آخر عهدهم لمسرح العلم الذي قضوا فيه أكثر سنوات عمرهم بين ممراته ومختبراته وقاعات دراسته ومكتباته، ناهلين من معينها المتوقد لتلهب العقول بالفكر المستنير.
الكل مبتسم ومترقب والبعض الآخر يحمل معه الورود الجميلة المختلفة الألوان لتعبر عما تجيش في نفسه من مشاعر، كهدية محب مع الكثير من الأمنيات بأن تسعدهم، أجل كانت سنوات عمرهم في الجامعة تختلف من شخص لآخر وكذلك الأسباب التي تحثهم على النجاح، ولكن الأهم هو أن كل منهم استطاع أن يتغلب ويتخطى كل العقبات التي تحبطه، ليستعد لخوض معترك الحياة لعالم الواقع، العالم الذي سيجسد شخصيته الحقيقية بممارساته العملية في ميدان الحياة، وإثبات وجوده في المجتمع ومجالاته المختلفة. ها هم يصطفون متتابعين استعداداً بزهو وأجمل حلة بردائهم الأسود الموحد، كليل السماء المرصعة بالنجوم المتلألة، وقبعاتهم التي تكاد تقع من رؤوسهم وتميل عنهم لتتخذ آذانهم ركيزة لها، وعلى شفاههم ابتسامة تحمل كل معاني السعادة والفخر.
بدأ عميد الكلية بإلقاء كلمته الترحيبية لأولياء الأمور والتعبير عن فرحة طاقم التدريس بهذا الفوج من الخريجين المتميزين ومن بينهم كان أحمد، الذي كان ينتظر منادات اسمه كأول حاصل على امتياز بمرتبة الشرف لدرجة الماجستير، متخطياً زملاءه لينظم لأسرته الجالسة بين مدرجات الأهالي، بينما عبثاً حاولت زميلتة فاتن لفت انتباهه وعيناها ترمقانه وتتابعان تحركاته بكل لهفة و حب واضح للعيان، ولكنه تجاهلها بكل هدوء متخطياً الكراسي بين الأهالي إلى أن وصل لمبتغاه، توقف لحظات أمامها وابتسم لها بكل حنان وحب ليسحبها معه لتصعد درجات منصة المسرح.
سيدة كبيرة في السن ولكنها بسيطة الملبس، ترتدي هنداماً ابيض كلون فستان زفافها الذي لا زالت تحتفظ به في أحد أدراج خزانتها، وتحمل قسمات وجهها معاناة السنين التي خاضتها لتربية ابنائها، تحكي تجاعيد وجهها حكايتها المريرة، وتبرز هالات السواد تحت عينيها كثرة السهر والتعب الواضح عليها، رغم كل ذلك إلا أنها كانت تسلب القلوب بابتسامتها اللطيفة الصادقة، لتذيب أقسى القلوب المتحجرة. ولطافة وجهها تقربك إليها وتحب أن تتمعن أكثر في ناظريها، أجل تستطيع أن تلمح عينيها وهما تخوضان في صراع مع الدموع لتبقى هادئتين، ناشدت ابنها أحمد لتبقى في مكانها فهي يكفيها أن تبقى بعيدة، وأن تراهم ناجحين متميزين، لكنه أخذ يقبل يديها ويصر على مشاركته هذه اللحظة، فاستسلمت له بطيب خاطر كي لا تفسد فرحته و تكسر خاطره في يوم تخرجه، أخذ الجميع يصفق لها بقوة وهي تصعد السلالم لمسرح الجامعة، أجل تستحق كل ذلك التقدير فهي رغم بساطتها وفقرها استطاعت أن تتكفل بتربية أبنائها، هي لا تحمل شهادة ولا خبرة ولا جمال، لكنها امتلكت صبراً جميلاً وأملاً وثقة في الله؛ ليتحقق حلم نجاحها بنجاحهم، رفضت وبشدة مغادرتهم لمقاعد الدراسة، فهي أملهم الوحيد لتأمين حياتهم المستقبلية وإخراجهم من عالم الفقر لعالم الاستقرار وراحة البال، استطاعت أن تكون السند رغم وفاة أبيهم المؤسف، إثر نوبة قلبية أثناء عمله على ناصية الشارع، فوقفت من بعده على عربة الخضار والفواكه لتبيع للقاصي والداني، تحملت حرارة الشمس القوية وهي تعصب رأسها بشريط حول رأسها متحملة الألم المتزامن الذي يَنتابها في كل مرة، كم كانت ترفض وقوف أبنائها على عربة الخضار معها لكي لا يراهم أحد من الجامعة، ولكنهم كانوا يصرون على البقاء بجانبها، الكل بدون استثناء يشعر بالمحبة الكبيرة لتلك المرأة التي تحملت المسؤولية، وكم كانت فرحتها كبيرة عندما بلغها ابنها بحبه لزميلته( فاتن)، لم يرَ إلا دموع الفرحة المتراقصة وهي تحتضنه بكل فخر، لقد كبر ابنها، وتزغرد بأجمل الزغاريد لتملأ المكان فرحة وبهجة وسرور، تحيطه بيديها الحانيتين لتضمه إلى صدرها غير مصدقة، ولكن فرحتها لم تكتمل، فبمجرد أن رأت(( فاتن)) أمه بملابسها البسيطة، خيرته بين حبه لها وبين أمه، لم تكن تعرف عشقه لأمه لأنها تربت أن ترفض كل ما لا يليق بها و لا أحد يرفضها، وها هو اليوم يفتخر بأمه أمام كل الحشود المتواجدة على المدرجات، أجل أمه، ثم أمه، ثم أمه، ولن يفضلها أبداً بأي شخص، فأفضالها كبيرة عليه وعلى إخوته، كانت تستطيع أن تتزوج برجل آخر بعد وفاة أبيه ولكنها لم تعد تفكر إلا فيهم، هم حياتها، وها هو أحمد يلتفت لأمه بكل فخر ويجتمع مع إخوته لإلتقاط صورة جماعية واحدة، كل واحد منهم ممسكاً بالآخر وهي تتوسطهم بابتسامة كبيرة فخورة بهم.