فاقد الشيء لا يعطيه
كاذية بنت علي البيمانية
كثيرا ما نسمع هذه العبارة تتردد بين الناس ومع الأصدقاء في مواقع العمل، لا يكاد يخلو منها مكان قبل أيام قليلة دخلت على محاضرة لإحدى الداعيات الرائعات ، و كنت حينها قد بدأت الكتابة في هذا الموضوع، كان هذا الموضوع يجول وتتضارب أفكاره في مخيلتي، حيث كان دخولي للمحاضرة متأخرا لظروف معينة ، وما إن مضت عدة ثواني إلا والمحاضرة تذكر هذه العبارة وترددها وتقول ” فاقد الشيء لا يعطيه” فكان وقعها كبير علي، فالكثير يرددها حتى المدربين والمتمرسين، يا ترى هل هذه المقالة فعلا صحيحة ؟؟!!، هل الإنسان السعيد دائما سعيد، ولا يمكن أن يكون مصدر لتعاسة الآخرين، وهل الإنسان الحزين حكم عليه بالحزن طوال حياته ، ألا يمكن أن يكون مصدر للسعادة لزملائه ولنفسه، الشخص الفقير ألا يمكن أن يعطي ويتصدق، الإنسان الغني ألا يمكن أن يكون قليل الجود، وهل الشخص الذي حرم من الحنان ودفء المشاعر في صغره عاجز عن تقديمها لأبنائه ومن حوله وهل ، هل …..؟؟؟!!.
هل أصبحت هذه العبارة قاعدة نعلق عليها أخطائنا في تقبل الآخرين وإنكار قدرتهم في العطاء والبذل ؟!!!.
لو رجعنا للأحداث وبحثنا في مجاري التاريخ وقصصه لوجدنا الكثير من الشخصيات التي افتقدت لأشياء في شخصياتها وفترات حياتها، ولكنهم تمكنوا من صنع أمجاد خلدها التاريخ، فهذا رسونا محمد صلى الله عليه وسلم فقد حنان الوالدين، ومن ثم فقد حنان الأقربون، وصدم في حياته لمرات عدة، وتعرض لكثير من الأذى والفقد، ولكن مع ذلك أثبت للخلق أجمعين أنه إنسان عظيم وأنه أعطف وأحن الناس، حتى أن حنانه وصل لكل الكائنات في الأرض من حيوان ونبات وجماد، فقد روى عبد الله بن مسعود أنه قال: “كنا مع رسولِ اللَّه في سفر فانطلق لحاجته فرأَينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت تعرش، فجاء النبي فقال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال : من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار” المصدر رياض الصالحين.
وقد مرت علي قصة محمد بن أبي عامر– الملقب بالحاجب المنصور في أحد قراءتي – الذي كان يعمل حمالا يحمل أمتعة الناس، وكان معدوما فقيرا بالكاد يملك قوت يومه، روي عنه أنه كان مفعم بالطموح والأحلام الكبيرة، ويذكر عنه أحبابه أنه في مرة من المرات جلس مع نفر من أصحابه، فقال : “سأملك الأندلس وأقود العسكر وينفذ فيها حكمي”، وبقية القصة يذكرها لسان الدين الخطيب قائلًا: «طلب محمد بن أبي عامر من زملائه حين سخروا منه أن يتمنوا عليه، فطلب الأول ولاية قرطبة، وطلب الثاني توليته حِسبة السوق، وطلب الثالث قضاء ولاية كورة، أما الرابع فتطاول عليه بالكلام البذيء»، وقيل أنه تحدث إلى صاحبين له ، وقال الأول أطلب أن تدفق علي المال وتعطيني جارية، وقال الثاني ساخرا: إن توليت فأركبني على حمار بالعكس، ومر عسكرك يمروا بي في طرقات المدينة ويضربوني ، تقول الرواية في صفحاتها الأخيرة انه لما وصل لمنصب الحاجب، حقق لرفاقه القدامى أمنياتهم، عدا الأخير الذي غرمه مالا باهظًا، وجاءت روايات مختلفة حول القصة ولا تهمنا التفاصيل بقدر المغزى منها، فبالرغم من فقرة وعدمه إلا أنه استطاع أن يصل إلى ما لم يصل غيره إليه بالرغم من الإمكانيات التي يملكونها فقد كان من أقوى حكام الأندلس .
هذا البرت آينشتاين الذي أتهمته أستاذته بالغباء، وطردته من المدرسة وقالت له : إن بقاءك في المدرسة يهدم احترام التلاميذ لي، في عام 1909م تم تعيينه رئيسيا للفيزياء النظرية في جامعة زوريخ، وقدم الكثير من البحوث العلمية في الظاهرة الكهروضوئية، والكثير من الاختراعات أشهرها: المصباح الكهربائي الذي لا يستطيع أحد أن ينكر فضله على البشرية، وفي عام 1921م حصل على جائزة نوبل، ألم يكن هذا الشخص فاقدا لقدرة الفهم من وجهة نظر الأستاذة، ألم يواجه المشاكل والصعوبات في حياته، ولكنه أبدع وخلد عمله.
الإمبراطور شارلمان قام بتشكيل فرق من الكتاب والنساخ، وأقام في مدينة آخن أفضل مكتبة في ذلك العصر، في حين أنه لم يكن يعرف القراءة، ومات أميا في بدايات العام 814م، بالرغم من فقده لمهارة القراءة والكتابة، إلا أنه ساعد الكثير من الناس على القراءة.
وحكي أن مسرح مدينة نابولي استقبل المهرج الإيطالي المشهور كارولينا الذي كان يضحك الآلاف من الإيطاليين، ويثير البهجة في نفوسهم والضحك، وخلال هذه الأيام استقبل أحد الأطباء مريضا، جاءه يشتكي من القلق والحيرة، فأجرى له الفحوصات فلم يجد عنده أي مرض عضوي، فشخصه على أنه يعاني من الكآبة، وأخبره أنه يوجد مسرح في مدينة نابولي فيه مهرج جيد ومضحك، وقال له أنت تحتاج لتغير الأجواء، وأخبره أن اسم المهرج كارولينا، فقال له المريض .. أنا كارولينا . !
وذكر الكاتب سامي محمد المستطير في كتابه المميز قصة الشاب الفلسطيني ناصر عبدالله الذي سجن في سجون الإسرائيليين، حيث عذب بكل أنواع العذاب، ولاقى أنواع مختلفة من الحرمان، إلا أنه استطاع تحضير رسالة الدكتوراه من داخل السجن بدون علم الجيش الإسرائيلي هناك، وقام بمناقشة الرسالة عبر الهاتف، حتى تدخلت الولايات المتحدة وأفرج عنه، وقد أعطي وسام العظماء، فالمشاكل وعقبة الحرية لم تمنعه من العطاء ، يا لها من همم.
هذا جزء لا يذكر من قصص لعظماء فقدوا أشياء وأبدعوا في مجالها ،حيث تمكنوا من تحقيق إنجازات عجز ملاكها في تقديمها فكانوا قدوات يحتذى بها في هذا العالم .
قد يربط البعض بين هذه المقولة وبين قوله تعالى :” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” الرعد(11)، ، لكن الآية واضحة ، حيث أوضحت أساس التغيير هو الشخص نفسه، متى ما سعى له وأخذ بالأسباب حقق الله مراده، ولم تذكر الآية أن فاقد الشيء لا يعطيه، فكثير ما نرى مدربين في مجال الاستشارات التربوية الأسرية والعلاقات يقدم النصائح والدروس والمواعظ، ويعالجوا الكثير من المشاكل في هذا الجانب الأخلاقي المجتمعي، ويعملوا على بناء أسر سعيدة صحيه مترابطة، في حين أنه هو يعيش معاناة مع أبنائه أوفي حياته ، وقد يكون قد فشل عدة مرات في حياته الزوجية، لكنه قدم للغير مصدر للتفاؤل والسعادة التي عجز هو عن تقديمها لنفسه، كذلك قد نجد طبيبا يعاني من مرض السكري أو نقص الدم أو غيرها من الأمراض التي ترهق الجسد والنفس، في حين أنه يعمل جل جهده لمساعدة هذه الفئة من المرضى الذين يعانون من هذه الأمراض، يخفف عنهم مرارة الألم والمعاناة، وما رأيك في الأشخاص الذين دخلوا الإسلام حديثا وحرموا منه سابقا ، إلا نرى أنهم أكثر ترسخ للإيمان في قلوبهم، نراهم يقدمون عطاء في مجال الدعوة لا مثيل له، في حين نجد أن من ولدوا على الفطرة عليه قد عجزوا عن فعل ذلك، كما أننا نلاحظ أن الذين لا ينطقون العربية أكثر حفظا للقرآن .
كم هذه الأعمال عظيمة من أشخاص عظماء ….وغيرهم كثير، وبالتالي هل معنى هذه المقولة أنني إذا علمت عن المدرب أن لديه قصور في أحد جوانب الأسرة يتوجب علي أن لا أحضر معه، ولا استمع لما يقدمه من معلومات وخبرات، ولا أطلع لكتاباته. وبالمثل علي أن لا أذهب لذلك الطبيب الذي لدية مرض معين وهو متخصص فيه، وعلي أن لا اسمح للمدرس الذي لديه طفل يعاني من فرط الحركة وصعوبات التعلم أن يدرس ابني …….
علينا أن نكون منصفين ومنطقين نحن لن نصل للكمال مهما بذلنا من جهد ولكن علينا أن نسعى له لنصل إلى أعلى السلم، ولا نوقف طموحاتنا عند حد معين، وهناك مثل يقول ” لكل جواد كبوة ولكل فارس هفوة “، فكل إنسان لديه ثغرة تختلف في قدرها، لكن هذا لا ينقص من شخص الفرد، فحضورك الدورة التدريبة لا يلزم عليك البحث في عيوب المدرب، المطلوب منك أخذ ما يفيدك ويسعدك، ودخولك عند الطبيب لا يتطلب منك مسائلته بمرضه وإنما ما يعنيك هو جودة عطائه وعلاجه، وتدريس ولدك من قبل المعلم أنت لست المعني بخصوصياته ، وإنما يعينك مستوى ابنك وسعي المعلم للبذل والعطاء، فكن صافي النية، وكن واثقا أن فاقد الشيء قد يعطي أكثر من مالكه.