كثُرت العِبر وقل الاعتِبار
بقلم : سليمان بن حمود المعمري
تمضي بنا الحياة سراعاً وتسير بنا وفق سنن الله التي قدرها، وتتقلب فيها الأحوال وتتغير فيها الظروف، وكل يوم هي في شأن من الله عز وجل، وتمتزج فيها مشاعر الحزن والفرح، وتتجلى فيها صور التطور والتقدم وفق ما أراده العزيز جل جلاله، من عمارة الأرض حتى تأخذ زخرفها وتتزين، ونتقل حينها من دار الفناء إلى دار البقاء، حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ونحن في سفينة الحياة هذه تتلاطم بنا أمواج الفتن والمحن، وتتمثل أمامنا شواهد الطيبات والملذات، وتروح وتغدو بنا صنوف الشرور والشهوات، ابتلاءً من الرحمن ليميز الخبيث مِنَّا من الطيب، ويعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}-[سورة العنكبوت 2]، وهذا الشأن جرى على من هم أشد منا إيماناً وصدقاً وإخلاصاً لله سبحانه وتعالى، حيث يقول تعالى في كتابه العزيز: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}-
[سورة البقرة 214]، لذا كان لزاماً عليناً مراجعة العلاقة مع الله وتنقيتها وتصفيتها وإعادة الأمور الصحيحة إلى نصابها، حتى نظفر برضى الرحمن، ونفوز بالجنان، وأن تكون تلكم المحن والفتن جسراً لنا للعبور إلى علاقة أقوى وأشد متانة مع المولى عز وجل لننعم بحياة طيبة، ونفوز بخيري الدنيا والآخرة، وهذا لا يتجلى بقلقة اللسان بل استحضار صادق ومخلص للمعاني الإيمانية وتجلياتها، والاستمساك بعرى الإسلام الوثيقة.
وحتى لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، ساق لهم من العبر ما تدعو للاعتبار، ومن التذكر ما يعيد للنفس التذكار، فكم من محن أصابتنا، وكم من فتن تمثلت أمامنا، وكم من شواهد عايشناها، فهل حركت فينا قيد أنملة من الخوف والفرار إلى الله، وكانت لنا نذير وإنذار، وانطلقنا بها نحو تصحيح المسار، وأن لا نجعل من مضي الأيام نقصان في صالحات أعمالنا وضعف إيماننا، وهي مع ذلك نقصان من أعمارنا، فيتضاعف النقص وتفتر الهمة وتتراجع العزيمة وتخور الإرادة، ونغدو حينها – والعياذ بالله – كالأنعام بل أضل.
وعوضاً أن يزداد إيماننا بالله، وتتقوى علاقتنا به، ونسارع إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، تظهر لنا مظاهر البعد عن الدين كالإلحاد والعقلانية الزائفة، وغيرها من مظاهر التقهقر عن جادة الصواب، وما يندب له الحبين ويزيد القلب حسرة أن تصدر هذه المظاهر من أتباع الدين لا من كافريه، لتمرق بهم في ملذات الحياة الفانية ومتعها الفاتنة لتسوقهم نحو ضلالات الفكر وظلمات التفكر، وتهوي بهم في وادي سحيق من التردي والانحطاط، وخير شاهد ما نراه اليوم من مشاهد التفاهة والسفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي، لندرك تماماً سبب ما نحن عليه من تشتت وتشرذم وتخلف وتأخر.
فيا أخي المسلم، لا تركن إلى ما أنت عليه من الدعة والسعة، ولا تغريك الحياة بما تسوقه لك من مظاهر الخنوع والرجوع، وجاهد نفسك حق الجهاد، وأعد جدولة حياتك بما فيه خير وصلاح لك وتوفيق وسداد، وزد من تجارتك مع الله من صيام تطوع وتنفل، وقيام لليل وحفاظاً للسنن الرواتب، وزيادة في النوافل، ولا تبخل بالتصدق والصدقة، وصلة الأرحام وتجديد التوبة، والإكثار من قراءة القرآن ، فهذه جوامع للخير وموانع للشر، ودوافع للهمم، وحوافز إلى القمم، تفوز بذلك من الله بوافر من الخير والنعم.
وأعلم تماماً أن المقام في هذا الشأن كثر فيه المقال، ولكن التذكير فيه نفع كبير، وهي من الأمور التي تجدد في المسلم الاستقامة. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }-[سورة الذاريات 55]، وحتى لا نجعل كفايتنا من الدين ما توارثناه من آباءنا وأجدادنا علينا أن نحث الخطى، ففي دار الخلد تميز وامتياز، حيث أن الجنة منازل ولكل منزلة لها مميزاتها للفوز بها، وعلى قدر ما تمتاز به اليوم تتميز به غداً، ولكل مجتهد نصيب، فالبدار البدار نحو دار القرار، والتشمير عن ساعد الجد والاجتهاد، فنسأل المولى عز وجل أن يلهمنا الرشد والرشاد، وأن يوفقنا لطريق الخير والسداد، وأن يجعلني وإياكم في أعالي الجنان.