2024
Adsense
مقالات صحفية

في منعطف الحياة

مهنا بن صالح اللمكي

بجانب والدي أجلس كطفلٍ شاخَ به الزمن، لم أرتوِ من أحاديثه عن ذلك البعيد النقيّ وشخوصه البريئة، وأنا أُمنِّي النفس لو كان بيدي أن أوقف عقارب العمر وأعيد عرض مشاهد الماضي خطوة خطوة، تشبّعت نفوسنا من سموم الحداثة وأصبحنا بحاجةٍ ماسّة لاستعادة ما فقدته قلوبنا من بياض.
أنا الذي يبحث عن وجوه الغائبين في عتمة الأحلام، وعن عطر أرواحهم في النسمات الصباحية المعطرة بزهور البلّ ولقاح الطلع وفي خرير السواقي والأفلاج وفي دروب بساتين النخيل، وبين الحارات الطينية وطرقاتها الترابية، أبحث عن ما تبقى من أثرٍ على صباحات أعياد تحمل بصمات ضحكاتهم وتآلفهم.
قبل ثلاثة عقود من الآن كان يُغلّف حياتنا ذلك الغلاف الذي يشبه طبقة الأوزون التي تحمي الغلاف الجوي من الأشعة الضارة، إنه غلاف البساطة، وغلاف المسافات الاجتماعية الآمنة، وغلاف قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101].
كانت نظرتنا للحياة عن بُعد أكثر استقراراً وسعادة، حيث لا توجد مجاهر تكشف لنا تفاصيل اجتماعية دقيقة لم تكن تراها القلوب المجردة.
وفي منعطف عمري الأربعيني وبعد أن خضتُ جميع التجارب لأجل استعادة الشيء اليسير من روح الماضي أيقنتُ بأن الأرواح التي ترحل لا تعود والتاريخ لا يعيد نفسه كما كنا نسمع، وتحويل منازل الطين القديمة إلى متاحف وجلب كل ما هو قديم إليها لن يعيد لنا روح الماضي فهو بمثابة النبش في قبرٍ لن نعثر بداخله شيءٍ سوى عظام بالية بلا روح، فيزيد جرحنا اندمالاً.
العيش والانغماس في التقنيات الحديثة ووسائل التواصل وخاصة الجماعية منها لن يزيد العقول إلا فراغاً أوسع، ولن يزيد القلوب إلا تفرقاً وشحناء أكثر، والعناء والمخاطرة من أجل جلب لقطةٍ تزيد من أعداد المعجبين لبرهةٍ من الزمن، إضاعة لوقتٍ نهدره دون الاستمتاع بالطبيعة، والتأمل في المناظر البديعة والمتنوعة على امتداد أراضي الوطن وجباله ووديانه.
العلم والتكنولوجيا نعمةٌ عظيمة أنعم بها الله علينا في هذا العصر، استفاد منها الغرب ووظفوها لخدمة وراحة الإنسان، وانشغلنا نحن العرب ببرامج التواصل والبحث عن الشهرة الزائفة من خلالها لدى البعض ولو على حساب التخلي عن مبادئهم الدينية وقيَم المجتمع، والعتب على من يشجعهم ويروّج لمحتواهم الفارغ.

خلاصة القول، العودة للحياة الطبيعية قبل ظهور برامج التواصل يريح البال، والابتعاد عن كل ما يؤذي القلوب والعقول والعيش بعيداً عن زحمة هذه البرامج ينقّي النفس، ويمنحها العودة لمراجعة جدول الحياة من التقرب إلى الله وتثقيفها من المصادر الأصلية وهي الكتب بشتى أنواعها، ولا يُمنع الاستفادة من المواد السمعية والبصرية الموثوقة في هذه التقنية كالمحاضرات الدينية والتثقيفية والبرامج الأرشادية والتعليمية لمختلف الجوانب الحياتية.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights