علاقة متبادلة بين الثقافة القانونية والحياة
الدكتور/ مصطفى راتب
أستاذ مساعد بكلية البريمي الجامعية الوعي هو الغاية والهدف الأسمى، فالوعي بالقانون ليس فقط معرفة التشريعات والنصوص القانونية، بل هو صورة متمازجة وشاملة لكل أنواع الوعي الاجتماعي ورفع المستوى الثقافي والمعرفي للمواطن ليكون قادراً على استيعاب القانون وتقبل أوامره ونواهيه بشكل صحيح، بل ويتبنى القانون ويجعله قيمة عليا يدرك أبعادها ويسعى لتطبيق موجباتها. يرتبط وجود القانون بوجود الإنسان في مجتمع، ومن ثم فلا غنى له عنه، فهو ضرورة ملحة للإنسان على المستويات كافة، ويعد القانون علامة على الوجود البشرى واستمراره وحاضره ومستقبله بل إن تقدم الأمم وقيام الحضارات يدور وجودا وعدما وقوة وضعفا وإيجابا وسلبا مع رسوخ اقتناعها باحترام القانون وقدسيته ووعي الشعوب به ولهذا تتعدد أهداف القانون وغاياته والنتائج المترتبة على سيادته وتمسك الإنسان به، ومن تلك الأهداف ما يلي:
• قيام مجتمع سام في سلوكه راق في أعراقه وتقاليده ومزدهر في علمه واقتصاده متقدم في انضباطه وأمنه .
• يعرف الجميع حقوقهم وواجباتهم ويتفرغون للعمل والإنتاج وبناء مجتمع يتعايشون فيه وفق مقتضيات الحق والعدل والمساواة.
• تيسير حياة الإنسان من حيث شعوره بالأمن والطمأنينة من جهة، ومن جهة أخرى تتفق أعمال السلطة التنفيذية وتصرفاتها مع أحكام الدستور والقانون، ويكون القضاء ضامنا وكفيلا لتأمين احترام السلطة لهذه الأحكام.
• يؤدي إلى الحد من لجوء الناس للمحاكم مما يوفر الجهد والمال والوقت ويعزز السلام الاجتماعي ويحد من التباغض والنزاعات والمشاكل مما يصب في محصلته سعادة الإنسان وازدهار المجتمع.
• يعد الوعي القانوني أساسا من أسس الحكم الديمقراطي الرشيد ويرسى مبدأ الديمقراطية في الوجدان الشعبي .
يعزز الوعي بالقانون الإيمان بقيمة الفرد وأهميته وتقدمه وموهبته بعيدا عن المحسوبيات والمجاملات .
• يعمق الوعي بالقانون علم الفرد بحقوقه وواجباته القانونية في مجتمعة مما يضمن له الحفاظ عليها والعمل على تحقيقها.
• توفر سيادة القانون بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية تؤمن للمواطن حاجاته المادية والمعنوية وتحفظ للدولة وحدتها وتمنعه من تجاوز القانون .
• يعزز المشاركة المجتمعية ويجسد حسن الإدارة والنزاهة والشفافية ويقاوم السلوكيات المنحرفة مما يساعد على جلب الاستثمارات ورؤوس الأموال والسياحة ودفع عجلة الإنتاج مما يساعد على رفع مستوى معيشة الأفراد .
تكمن أهمية الوعي القانوني في إدراك أهميته وجوهره الحقيقي، وهو تنظيم العلاقات بين الأفراد في المجتمع، مما يمكنهم من حفظ حقوقهم وجعلهم أكثر فهما للحياة العملية؛ فيصبح المجتمع أكثر انضباطا، وتقل فيه عدد الخلافات والجرائم. وهذا يخفف العبء على الجهات القضائية في الدولة ويساهم في بنائها وتقدمها. وواجب الشخص القانوني تجاه مجتمعه نشر الثقافة القانونية عن طريق
وسائل التواصل الاجتماعي والنشرات الأسبوعية؛ ليتحقق من ذلك الهدف الأسمى وهو فهم القانون واستيعابه، وبذلك يتمكن من تقبله والانقياد لأوامره ونواهيه وتطبيقها عن قناعة.
لذلك؛ فهناك علاقة متبادلة بين الثقافة القانونية والحياة الاجتماعية، حيث خلق الله سبحانه وتعالى الكون على نظام دقيق جدا. وعاش البشر منذ آلاف السنين على أنظمة؛ لأنه علم مأخوذ من الحياة البشرية ويدخل في جميع النواحي في حياتهم ومن المتعارف عليه بأن من أنظمة البشر العرف والتقاليد، وهي من أهم مصادر القانون ومنها بدأت الأنظمة تتنوع وتنتشر.
ومن مزاياه أنه مواكب وملبٍّ للحاجات البشرية، ولذلك هناك واجبات يجب أن يلتزم بها الفرد والمجتمع، وعلى الفرد والمجتمع الوعي الجيد لما للشخص وما عليه من حقوق، وواجبات ومعرفة حدود العلاقات بينه وبين أفراد المجتمع وبينه وبين المؤسسات الحكومية، وعدم أحقيته في الدفاع عن نفسه بحجة الجهل بالقانون للمبدأ الذي ينص على «عدم جواز الاعتذار بجهل القانون».
الجهل بالقانون مشكلة، ولا يمكن حل هذه المشكلة إلا بتطبيق مبدأ صارم، قد يكون هذا الخيار ظالماً لكنها الطريقة الوحيدة لتحقيق قوة القانون ودوره، حتى لا يتسنى لأحد أبداً الاحتجاج بجهل القانون. وهذا المبدأ متأصل في علم القانون، فقد كتب ملك بابل “حمورابي” شريعته على لوح كبير ووضعها في أكبر ساحات مدينته، لكي لا يعذر أحد بجهله لتلك التشريعات إيماناً منه بأنه من المستحيل على الأفراد معرفة كل القوانين المنشورة والاطلاع عليها وفهمها. حتى إن هذه المهمة صعبة في الحقيقة حتى على رجال القانون أنفسهم والمتخصصين فيه؛ لأن العلم بكل التشريعات المنشورة أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً.
فعندما يقف المدعى عليهم أو المتهمون في المحاكم أمام القضاة، وبعد سؤالهم عن سبب ارتكاب الجرائم يكون الجواب غالباً بالإنكار وبالنص الحرفي: “لا أعرف أن ذلك مخالف للقانون أو مجرَّم”. وعلى الرغم من أن المحكمة لا تعتد بهذا الدفع الذي يؤكد أصحابه جهلهم القانوني من مبدأ “القانون لا يحمي المغفلين” كما يطلق عليه الكثيرون؛ فإن القاعدة القانونية لا تعتد بجهل من يجهل القانون، لأنه في غالب الأمور يكون الدفع بالجهل القانوني هو ذريعة الإنسان المفلس الذي لا يملك دفاعاً عن نفسه.
ومتى تم سن التشريع وفق الأصول ومرور المدة القانونية التي ينص عليها لنشر القانون في الجريدة الرسمية؛ قامت قرينة على علم الناس بالقانون ويفترض علم الجميع به، فلا يقبل من أحد أن يدعي جهله به، وكذلك لا يقبل من أحد منهم إثبات عكس ذلك، أي إثبات أن القانون لم ينته إلى علمه، إما لأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة؛ فلم يكن بوسعه الاطلاع على الجريدة الرسمية، وإما لأي سبب آخر. وبالتالي يسري هذا التشريع بحق المخاطبين بأحكامه من دون استثناء. بمعنى أنه يطبق على كل من يتوجه إليهم من أشخاص، فلا يعفى أحدهم من الخضوع لأحكامه بدعوى أنه يجهل وجود هذا التشريع، فالجهل لا يصلح عذراً لإعفائه منه. وبالتالي فإن القاعدة الحقوقية متى سُنت ونُشرت حسب الأصول تسـري بحق كل المخاطبين بأحكامها سواء أكانوا عالمين بها فعلاً أم لا. وهذا ما يُعبر عنه بالمبدأ المعروف القائل “لا جهل في القانون” أو “لا يُفترض في أحد الجهل بالقانون” أي لا عذر بجهل القانون، فلا يقبل من أي كان الاحتجاج بجهله حكم قاعدة قانونية ليفلت من انطباقها عليه وسريانها بحقه. فجهل القاعدة القانونية لا يصلح إذن عذراً يمنع أو يعفي من انطباق القاعدة القانونية على أحد، فهي تسري بحق جميع المخاطبين بأحكامها، من علم بها ومن جهلها على السواء.