المتظاهرون بالأخلاق
د .علي زين العابدين الحسيني
حَدَث أنّ شاباً كان يعمل مع أبيه في محله ، وكان يتظاهر بالأخلاق الحسنة من الأمانة والصدق وحبّ الناس، هذا ما يعرف عنه في الظاهر، لكنّه مع انتهاء كلّ يوم يبقى في المحل لوقت متأخرٍ، يبحث عن بعض البضائع الغالية ثمناً الخفيفة حملاً، فيأخذ بعضها، ويبيعها في السوق بمبالغ زهيدةٍ.
لاحظ والده أن البضائع تقلّ شيئاً فشيئاً، وإذا سأل عن ذلك أنكر هذا الأمر إنكاراً شديداً، فلم يكن أمام والده إلا اتهام العاملين بالخيانة، وتوجيه اللوم والعتاب لهم، ثمّ أخذ قراراً جريئاً بشأنهم فخصم جزءاً من أجرتهم اليومية، ففرح لقراره الابن الجاني، ولم يكتف بذلك، بل كان يحرض الأب عليهم متهماً لهم بالخيانة تارة، وبعدم الحاجة لبقائهم تارة أخرى.
كان الشاب مطمئنّ البال، فلا يعنفه قلبه على سوء فعله، ولا تتحرك عاطفته نحو الآخرين، ولم يشعر بمرارة المنع، أو يفكر في حاجة المحتاجين، ومع أنّ الأب أخذ هذا القرار إلا أنّه لم يكن مستريح البال، فكان يشعر بالقلق والحزن تجاههم، وأراد أنْ يكشف الحقيقة كما هي دون شكٍ، فلا يريد أنْ يكون ممن يسبق في نفسه سوء الظن قبل حسنه، وما أكثرهم!
أحضر الأب بعض كاميرات المراقبة في خفيةٍ من الجميع، ووضعها في يوم إجازتهم الأسبوعية بطريقةٍ يصعب على أحدٍ اكتشافها أو الالتفات إليها بمعاونة المتخصصين، وفُتح المكان كعادته، وبعد يومٍ حافلٍ من البيع والشراء غادر أغلبهم المكان، وانتظر الشاب كعادته خلوه تماماً من العمال، حتى إذا تأكد من أمره واطمئن مارس جريمته الشنعاء ظناً منه أنّها ستختفي آثارها ككلّ مرة، ويبدو أنّ مَن استسهل شيئاً فإنّه يصعب عليه تركه.
وفي اليوم التالي جاء الأب مع عماله، ودار على البضائع يستكشفها، فعرف أن ثمّ سرقة لها، لكنّه تمالك نفسه حتى يصل ولده الذي كان متأخراً، ثم أخبر الجميع بوجود نقص ملحوظ في البضائع ، فأنكر ولده وغضب رامياً التهمة على غيره، فما كان من الأب إلا أخبرهم بوجود كاميرات المراقبة، وكان الأمر المدهش حينما توجه الجميع لغرفة المراقبة، وشاهدوا بأمّ أعينهم سرقة الشاب بهذه الطريقة المخزية، والتي جعلت الجميع يستحقرون فعلته، ويستخفون بأخلاقه الظاهرة.
تأثر الأب كثيراً، وقال لولده أمام الجميع: وضعت هذا الفخ؛ لأوقع فيه الجاني، ويستبين أمره، وما كنت أظن إلّا غريباً عنّي، فإذا الواقع في حبال المصيدة مَن كنت أظنه جزءاً مني، وإنّي في هذا اليوم في كامل حزني كما أنني في كامل سعادتي، إذ أظهر الله عز وجل براءة هؤلاء العمال، وتالله لفرحي بسعادة هؤلاء يفوق شدة حزني على سوء عملك وحقارة تربيتك.
خجل الابن ووجل كالنعامة التي تخفي وجهها عند الفزع، ثم اعتذر من خطئه، ووعد أباه أن يبدأ حياة جديدة يصحح فيها زلاته، ويصلح عثراته، فأعطاه الأب فرصة للتوبة والرجعة، لكن هذا لم يمنعه من أن يصارحه وينصحه قائلاً:
يا بنيّ: حسّنتَ ظاهرك، ولم تحسن باطنك، وهربتَ من الخيانة إلى الكذب، وكلاهما شرٌ مهين لصاحبه، وتعاليتَ بعلوك الماديّ، لكنّك تجاهلتَ السموّ الروحيّ، فأخذتَ حقوقك كاملة، ولم تبال بحقوق غيرك الناقصة، وكان الأحق بمثلك أن يقرّ بأن هناك حقوقاً للآخرين كحقوقنا، بل أشد؛ لأننا أمةٌ متماسكةٌ يرعى كبيرها صغيرها، ويعطف غنيها على فقيرها.
يا بنيّ: وضعتُ لك كاميرات خفية تراقب أعمالك الظاهرة، لكنّها ليست في استطاعتها مراقبة حركاتك الخفية، ومعرفة نواياك الباطنيّة، فاجعل ربك -في قولك وفعلك- رقيبك، واحرص على ما ينفعك ويفيدك، واستعن بالله على ما يُعجِزك ويُضعِفك.
يا بنيّ: كُن سليم الصدر، ولا تحرض أحداً على أحدٍ، أما بلغك قول الإمام الذهبي،تعليقاً على حادثةِ وقوعِ جفوةٍ بين الإمام ابن خزيمة وبعض أصحابه، بسبب الوشاة: “قبّح الله مَن ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة”، فليتهم يا ولدي يكتبون قولته في الأماكن العامة؛ لتكون تذكيراً وزجراً، فهي منهج تربويّ، وأسلوب تعليميّ.
يا بنيّ: اصغ لنصح الناصح، واسترشد برشد الراشد، وإنّما هُنَّ كلماتٌ يسيراتٌ فاحفظها عنّي: “كن حريصاً على حقوق غيرك كحرصك على حقوق نفسك، ولا تكن ملتفاً حول ذاتك، قابعاً على تحصيل منفعتك”.
يا بنيّ: إنّ الأخلاقَ الحسنة داعيةٌ إلى كلّ المكارم، ومهمتها العظمى في الحفاظ على حقوق الآخرين كالحفاظ على حقوق النفس، ورحم الله إنساناً يحقق معانيّ الإنسانية، فيرى حقوق غيره واجبات يجب قضاؤها، وحقوق نفسه نوافل يمكن تأخيرها.