2024
Adsense
مقالات صحفية

حديث الأربعاء إذا كنت رايح…

لولوة القلهاتي

يقول المثل الشعبي الذي لا أحبه:
“إذا كنت رايح كَثّر من الفضايح” ومضمون المثل دعوة للقطيعة مع الناس بكل ما عشتَه معهم.
القطيعة مع من شاركوك ماضيك في المكان، وتقاسموا معك تباريح وهموم الزمان.
والمنطق يقول: لا تحرق سُفنك التي حملتك إلى البر، فقد تحتاجها يوماً، أو تحتاج لِما تبقّى من أخشابها على الأقل لتصنع طوق نجاة يوصلك لبرّ أمانٍ آخَر مستقبلاً.
لا يمكن للمرء مهما بلغ به العناد، أن يعيش وحيداً دون محيطٍ اجتماعيّ يسبح فيه ويتنفس ويتغذّى ويسير مع تياره أحياناً، أو يقاومه أحياناً أخرى.
ومهما حاول الإنسان الانسلاخ من مشكلات مجتمعه والانعزال أو الانكفاء فلن يحلّ ذلك مشكلاته ولا مشكلات غيره ولا مشكلات البشرية. الإنسان المنعزل عن الناس ليس إلا فردٌ هارب، لا نفع منه في الدنيا القائمة أصلاً على العمران وتبادل المنافع بين أهلها.
وبالعودة إلى المثل الشعبي فهو تحريضٌ على أنكَ إن جاءتكَ الفرصة لمغادرة جماعةٍ ما، أو مكان ما، فأشعِل الفوضى، أو على أقلّ تقدير قول كلّ ما يعتلج في صدرك من كلامٍ كنتَ قد خبّأته في صدرك، وإهاناتٍ تودّ لو أنك تردّها أضعافاً لمن أهانك يوماً أو أساء إليك، زميلاً كان أو مسؤولاً، ولكن ماذا لو؟
هل تفاجأت بهذا السؤال؟ ماذا لو…؟!
ماذا لو أن أمورك في عملك الجديد بعد مغادرتك لزملائك القدامى في عملك السابق الذي تكرهه، والذي (كثَّرتَ فيه من الفضائح) كما يقول المثل، لم تجري رياحكَ فيه كما يجب، وأنك بعد مدّةٍ طالت أو قصرت اضطررت لمقابلة أحدٍ منهم (من أولئك الذين كانوا يوماً زملاء لك) وطلبتَ خدمةً معينةً منه، هل سيكون لديك القدرة على لقائه والتحدث إليه ولو للسلام فقط؟ ناهيك عن طلب خدمةٍ منه، هل بإمكانك القيام بهذا دون حرجٍ ودون أن تفكّر بالأمر مئات المرات وعرقك يتصبّب، ويسيل ليغرقك؟
هل تستطيع العودة لعائلتك بعد أن أهنتَالجميع؟ وخرجت من البيت مغاضباً حاملاً حقيبتك المحشوة بملابسك وبالغيظ والإحباط.
وتسلّلتَ لِواذاً في دروب التيه تتلقّفك الجدران الصامتة، والشوارع المزدحمة، وفي عقلك عشرات المشاريع والنجاحات المُتَخيَّلة بعيداً عن أسرتك وقمعهم المفترض.
هل تساءلت ماذا لو أنني لم أحصل على الفرصة التي أريد، ولم يسعفني الحظ، ولم تقف معي الحياة، ولا عنفوان الشباب، إلى من سألجأ؟ وفي أي ركنٍ سأعيش؟ وأي حضن سيتلقفني؟ وأي يدٍ ستربت على كتفي وتنسيني تعبي، بعد أن تركتُ كل ذلك خلفي ومضيت إلى دروب اللا أين؟
وأنت.. يا من فضّل الهرب من مسؤولياته، هل سألت نفسك ماذا لو كبر أبنائي بعيداًعني بعد أن تركتهم للدنيا تعبث بمصيرهم، ولُذتَ بالفرار منهم ومن مشاكلهم وأسلمتهم للمجهول يدير مستقبلهم وقادم أيامهم؟، ماذا لو كبرتَ ولفَظتكَ الحياة وحيداً طريداً شريداً بعد أن إمتصّت آخر قطرةٍ من رحيق شبابك؟ إلى من ستعود؟ ومن سيحنو على شيبتك؟ ويرحم جسدك الذي أبلته السنون والأسقام؟ هل ستبحث عن أبنائك؟ وإن وجدتَهم هل ستعرفهم ويعرفوك؟ وإن عرفوك هل سيغفرون لك؟ وإن غفروا لك بأيّ عينٍ سينظرون إليك وبأي لسانٍ ستخاطبهم ويخاطبونك؟
والحال هي ذاتها تنطبق على الأمّ التي هجَرت أو تفكّر في هجران حياتها وأبنائها، هل سألتْ نفسها السؤال ذاته: ماذا لو؟
في خاتمة القول ليس هذا المقال وعظاً بقدر ما كان سؤالاً خطَر على البال وأنا أتفكّر في حال الناس الذين يحرقون مراكبهم ويقطعون صِلتهم بماضيهم، لا أعطي لنفسي الحقّ هنا بأن أحكم عليهم، لأنه بالقطع هناك أسباب كثيرة تدعوا الناس لمغادرة حيواتهم، وأماكنهم وتجعلهم يحرقون مراكبهم خلفهم ويتابعون متقدمين للأمام فقط، متوغّلين في الحياة والمستقبل، قاطعين صِلاتهم بالماضي، ولكلّ واحدٍ منهم دواعيه التي يراها منطقيةً ووجيهة في حينها.
هذا المقال كُتب ليوصل فكرةً مؤدّاها:
(إذا جيت رايح، أُترك لك خط رجعة مفتوح، قد تحتاجه يوماً للعودة إلى الميناء الذي غادرت منه)
لا تزرع الشوك في أرضٍ تمر بها
فقد تعود إليها حافي القدمِ

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights