حديث الأربعاء (الخمسين)
لولوة القلهاتي
بعد الخمسين بداياتٌ جديدةٌ في دورة حياة الدوَل -كما هو في دورة حياة الإنسان- يكون العام الخمسون هو مفصل ومفتَرق طُرق. يلامس فيه جسد الدولة بدايات ظهور ما يسمى بشيخوخة الدولة وما يرافقه من أعراض، كما أن الإنسان حينما يبلغ الخمسين يدخل بما يسمى بسنّ اليأس وما يرافقه كذلك من أمراض، بعد ما كانت مستترةً تحت شباب الجسد وفتوّته .
الآن وقد أتممنا الخمسين عاماً من مسيرة عمان الحديثة منذ عام ١٩٧٠م إلى اليوم، ونحن على مشارف العام الجديد ٢٠٢١م؛ لاحظ الجميع أن الترهل في أجهزة الدولة كان قد بلغ حداً بَدا فيه أن حركتها أصبحتْ صعبة، ونقلاتها تجاه التحديث وتطوير عملها الإداري وأداء واجبها أصبح بطيئاً، لهذا فإن السلطان هيثم بدأ عهده بما أُطلق عليه اصطلاحاً “ترشيق الحكومة”.
وقد بانت الأمراض المزمنة والفساد على جسد وروح الدولة وهو مرض الأنظمة الإدارية والسياسية الأول والأخطر، الأمر الذي حدا بالسلطان الراحل -طيب الله ثراه- أن يتحدث عنه علانية، ويحذّر منه في كلمته التي ألقاها في مجلس عمان في العام ٢٠١١م، ويطالب مجلس وزرائه باتخاذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون تفشّيه، والعمل على إيقاف نخرِه لأجهزة الدولة بكافة الوسائل القانونية الصارمة المتاحة، وقد اتخذتْ كثيراً من الإجراءات، ولكن الفتق كان قد اتسع واستعصى على الرتق .
اليوم ونحن نودّع خمسين عاماً ونستقبل خمسين أخرى برؤية عمان ٢٠٤٠ وبها نفتتح مئوياتٍ جديدةٍ لعمان ومستقبلها بسلطانٍ جديد، وخطة توازن وإجراءاتٍ مالية ربما يراها البعض قاسيةً إلى حدٍّ ما، ولكن ما لا يختلف عليه اثنان أنها ضرورية وحتمية إذا ما أردنا العبور من عُنق الزجاجة الاقتصادي والمالي الذي يرزح تحته العالم أجمع وليس عمان وحدها، ومعالجة عبءٍ كانت الأجهزة الإدارية تنوء تحت ثقله، ألا وهو الكمّ الوظيفي على حساب الكيف، والكثرة داخل أروقة الوزارات والمؤسسات والهيئات على حساب نوع الخدمات وجودتها وسرعة الإنجاز والكفاءة، ومجاراة المتغير العالمي في التقنية والإدارة الإلكترونية النموذجية لشؤون الدولة ومعاملات المستفيدين من الخدمات التي تُقدَّم من قِبل الأجهزة المعنية المختلفة سواءٌ أكانت حكومية أو خاصة.
في كتابه الذي عنوانه (ما بعد الشيوخ الانهيار المقبل للممالك الخليجية) الصادر بنسخته العربية عام ٢٠١٤م كتب كريستوفر م. ديفيدسون: ” هناك ضغوطات داخلية وخارجية شديدة كانت تتراكم في الممالك الخليجية، وبدأت في بعض الحالات، قبل العام ٢٠١١ بمدةٍ طويلة. ورغم أن هذه الصغوطات لم تؤثّر في دول المنطقة بشكلٍ متساوٍ نظراً للتفاوت الاقتصادي_الاجتماعي والسياسي الملحوظ، إلا أنه يوجد أنماط وقواسم مشتركة فيها تشير إلى أنها ستؤثّر قريباً في الدول الستّ بأكملها”، والضغوط الخارجية التي يتحدث عنها ديفيدسون في الاقتباس السابق هي ضغوط البنك الدولي حول ترشيد الإنفاق وإقرار الضرائب، وإيقاف الدعم الحكومي للسلع، كما أن تقلبات أسعار النفط تشكل ضغطاً هائلاً هي الأخرى في ظل اعتماد الدول الست عليه كموردٍ شبه وحيد لرفد ميزانياتها.
أنا شخصياً لم يفاجئني الإجراء الذي اتخذه السلطان هيثم أيّده الله بإحالة كل من أكمل ٣٠ عاماً وأكثر من الخدمة في الحكومة إلى التقاعد؛ لأن هذا كان الإجراء البديهي الأمثل لتخفيف العبء المالي على الدولة والتخلّص من ترهلاتها الإدارية، وسيفتح باب التوظيف والإحلال الإلكتروني لميدان العمل المؤسسي الحكومي.
“القانون كالموت يجب ألا يستثني أحداً” قالها الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو .
هذا ما نطمح أن يكون عليه الحال في بلادنا إن أردنا أن نعالج جوانب القصور وإصلاح الثغرات والقضاء ولو نسبياً على الفساد، أن يكون القانون فوق الجميع ولا يستثني من سطوته وسلطانه أحداً مهما كان.
كما أن حرية الصحافة والنشر وحرية الرأي والنقد، يجب أن تكون من ممهدات الخمسين عاماً الجديدة والعهد الجديد، بل من ضرورات المرحلة القادمة وأساسها إن أرادت الحكومة معرفة جوانب التقصير وجوانب الكمال فيما تفعل وتنجز؛ لأن الصحافة هي الرقيب، والمواطن هو المراقب، والقانون هو المحاسب، والقضاء هو الحَكَم.
نعرف جميعنا نحن أضلاع مثلث الدولة السلطان حفظه الله والحكومة والشعب، أن هناك خللاً كان قد اعترى منظومة العمل الوطني خلال مسيرته وأن هناك ملفات أخفقت الحكومات المتعاقبة السابقة في إدارتها بحكم مركزية القرار، وفي خطاب العيد الوطني الخمسين قالها السلطان صراحة: إنه يسعى جاهداً خلال الفترة المقبلة للتخلص من هذا القيد المركزي.
التغيير ليس ترفاً، ونقد الذات ليس عيباً، ومراجعة المرحلة السابقة ليست قلة وفاء ولا جحود ولكنها الواقعية. وكما يقول الروائي الإسباني كارلوس زافون على لسان أحد أبطال روايته متاهة الأرواح:
“نبحث دوماً في الحاضر والمستقبل عن إجابات موجودة في الماضي”. ولمعرفة أين كنا وأين وصلنا؟ وماذا أنجزنا وفيمَ قصّرنا؟ ومتى وأين أخفقنا؟ ولماذا تقدم غيرنا وتأخرنا؟ لمعرفة كل الإجابات الحقيقية والصادقة والأمينة والموثقة عن الأسئلة السابقة، علينا العودة إلى مسيرة الخمسين عاماً التي مضت ودراستها لا إهمالها، واستيعاب دروسها لا الإعراض عنها، وتمحيص مثالبها لا التغاضي عنها، ومساءلتها لا القفز عليها.
كل هذا ننتظره وأكثر بإذن الله في مسيرتنا القادمة، وكلّ عامٍ وعمان بخير .