الأربعاء: 02 أبريل 2025م - العدد رقم 2508
Adsense
مقالات صحفية

التنافس الموهوم

د . علي زبن العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري

 

يسعى كلّ منّا أنْ يكون في هذه الحياة أفضل من غيره بيد أنَّ كثيرين يريدون التفوق على الآخرين في الأمور الدنيوية من تحصيل معاش ووظيفة وما يدور في فلكهما، وقليل هم من يرجون التقدم في الأمور المعرفية، وبناء على الأمرين ينظر الشخص في تلهفٍ تام لمن حوله، ويراقب بتمعن غيره؛ لأنه يحاول الوصول إلى ما وصل إليه النابهون أو الزيادة عليهم، وهذه الحلقة من التنافس المستمر قد يكون فيها أضرارٌ كثيرةٌ، بعضها ظاهرٌ، وبعضها خفيّ.

وفي طريق البحث عن الأفضلية ينسى الشخص نفسه؛ إذ لا ينظر في هذا السباق المتواصل إلا لمن هو متقدم عليه فعلاً سواء أقرّ بذلك أو رفضه، والعادة أنه وإنْ رَفضَه ظاهراً لكن لا يستطيع أن يغفل عنه باطناً، وحاله كراكب الخيل في سباقٍ تكون عيناه ناظرة لمن أمامه، أو على مَن بجانبه، وقد ينسى المتسابق أنّه ربما يسقط، أو لا يستطيع التحكم على خيله أثناء إدامة النظر على غيره، فيحصل له ما لا يرجوه، وربما ينقطع عن السباق بسبب ذلك.

ليس عيباً على المرء الطموح أن ينظر لغيره من النماذج المشرفة دون حسدٍ أو حقدٍ، فيحاول اللحاق بهم، أو الاقتراب منهم؛ لأنّ الجميع يطمح إلى الكمال سواء كان في الأمور الدنيوية المباحة أو الأمور المعرفية، أو الأمور الأخروية، والأخيرة أفضلها وأعلاها، وهذا ما حثّ عليه بعض الصالحين في قوله: “من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره”.

لا شك أنّ المنافسة على أعمال الخير مطلوبة، والمسارعة في كل نافع من الأمور من الإيجابيات، لكنّ الخوف كلّ الخوف أن يتحول كل ّجهد الشخص لهذا الشيء دون عناية بنفسه التي بين يديه، أو تحقيق لذاته، أو معرفة إمكاناته، أو إلمام بقدراته، فيتحول لشخصٍ لا همّ له إلا اللحاق بغيره، وقد يتأزم معه الوضع فيحقد على الآخرين، وهو الأمر المشاهد من قليلي الإمكانات الذين لا يستطيعون التنافس مع غيرهم، حيث يتحول أكثرهم أعداءً للناجحين بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

وهنا أتساءل هل الأفضل للشخص أن يعيش في حلقةٍ تنافسيةٍ دائمةٍ في هذه الدنيا مع الآخرين، أم أنّ الأرفق بحاله أن يحاول تطوير نفسه ما أمكن، فيشعر بالتغير والرقي يوماً بعد يوم بغض النظر عن اللحاق بغيره، أَوَصلَ مثلهم أم لم يصل، والأهم من ذلك كله أن يكون مقتنعاً بأنّ السيرَ في طريق النجاح هو نجاحٌ، ومعرفة سبيل الإنجاز هو في حد ذاته إنجازٌ.

وقد ذكر أهل السير أن “إبراهيم المهديّ دخل على المأمون، وعنده جماعةٌ يتذاكرون في مسائل العلم فقال: يا هذا هل لكَ معرفةٌ بما يقولُ هؤلاء، فقال: يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر، فقال المأمون: لم لا تتعلمَ اليوم؟ فقال: أو يحسن بمثلي طلب العلم؟ فقال: نعم، والله لأن تموت طالباً للعلم خير مِن أنْ تعيشَ قانعاً بالجهل”، وهو هو قولي: سيركَ في طريق النجاح خيرٌ لكَ مِن أنْ تعيشَ قانعاً بعدم النجاح.

في حقيقة الأمر لو أمعن الشخص في رؤيته للأشياء سيجد أن الأفضل له ألا يكون همه أن يكون أفضل من غيره، أو أن يسعى لتكون كلمته هي العليا دون غيرها؛ لأنّ هذه آفاتُ مَن لا يدرك ذاته، أو يعي قيمة نفسه، وإنّما يكون هدفه محاولة أن يُخرِج من نفسه أفضل ما لديها، بحيث يكون في كلّ يوم أفضل مِن أمسه، ويلحظ الآخرون منه تغيراً ملحوظاً في شخصيته ومهاراته وآثاره يوماً بعد يومٍ.

ما مِن شيء أجمل أنْ تكون أداةَ تطوير نفسك وآلةَ نفع غيرك في ركنٍ بعيدٍ عن الأنظار، محتفظاً بنفسك مع الخلّص من أصحابك وطلابك بأسباب الرقي والأخذ بأيدي الآخرين إلى طرق النجاح، عازلاً نفسك مع هؤلاء المستفيدين المحبين الذين ينتمون إليك وتنتمي إليهم معرفياً وسلوكياً.

ودائماً ما أكررُ أنّ الأصوات العالية والأفعال الصاخبة لا تبني أمة ولا تشيد مجداً، فأرباب البناء الحقيقي جرت العادة أنّهم يعيشون متواضعين ويموتون غريبين، لكنّ آثارهم شاهدة وإنجازاتهم ناطقة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights