حديثُ الأربعاء العظماء بالموت يخلدون
لولوة القلهاتي
“إننا شعبٌ يعمل بصمت. يبني بلده بحزم وتصميم لا نميل إلى التهريج”
قابوس ٧٤م
لن تنساكَ عُمان التي أسّستها حجراً حجراً، وأقمتها جداراً جداراً، وأنهضتها ركناً ركناً. في هبوب الريح نسمع صدى صوتك ينادينا متحبباً “يا أبناء عمان الأوفياء”، و في ظلال الأشجار وتمايل خوص النخيل نلمح ظلّ سيارتك الروڤر الزيتونية يعبر النهارات، تستوقفك العجائز والشيّاب بعفويتهم وبساطتهم يُحدثونك بكلامٍ لا نسمعه لكننا نسمع ضحكاتك معهم تُرَجِّعُ صداها جبال الحجر وذُرى سمحان.
هنا نزلت وخَيَّمتَ وتوضأت وصليت على ضفاف أودية عُمان الهادرة بمياهها في فصول الشتاء الماطرة الباردة.
لقد كنتَ يا قابوس أيقونة الحظ التي كافأ الله بها هذا الشعب الطيب الصبور على صبره وجلادته وتحمله للسنين العجاف داخل الوطن، وللذل والإهانة خارجه.
كنت أنت رأفة الربّ بالثكالى والأيامى واليتامى، وبدموعهم المسكوبة خُفيةً تحت جنح الليل، وتوسّلاتهم بأن يرأف الله بحالهم وينقذهم من الظلم والاستبداد والجبروت، وقد أصبح الفقر مُريعاً فظيعاً والخَطبُ أليمٌ والأخذ شديد.
كنت أنت دعاء الأمهات المستجاب، الطائف مع نسمات الفجر وبواكير الصباح ليصعد إلى الملأ الأعلى دون حجاب لائذاً بالحصن الحصين ومتدرعاً بالمعوذات بأن يحفظ أبناءهن الذين في مجملهم لم يبلغوا الحلم، حين خرجوا متسللين تحت جنح الظلام ليركبوا سفن المجهول ويعبرون البحر إلى شواطئ البحرين والدمام والكويت وسواحل أفريقيا الشرقية؛ ليخرجوا من بطن السفينة فيتلقفهم فَم الغربة وتنهشهم أظفار الحاجة وتضرسهم أسنان العمل الذي لا يرحم، فيكبرون فوق سني أعمارهم أعماراً في بضع سنين.
وكنت أنت الرُقية التي رقانا بها الإله فشفي بها المرضى الذين كانت أتفه الأمراض وأصغر الڤيروسات تفتك بهم والتراخوما تعميهم وشلل الأطفال يُقعدهم.
كنت أنت التعويذة التي ألقاها الربّ الرحيم لنا وأمَّنَتْ عليها ملائكته ذات يومٍ سعيدٍ من أيام صيف ١٩٧٣ للميلاد.
فتحالف معنا الحظ والسعْد ويُمن الطالع معاً، لنغلق صفحة كَدِرةً سوداء كُتبت بدماء الفرقاء والأخوة الأعداء في حربٍ ضروس دامت سنوات لم تخلّف لنا إلا الدمار والفقر وشتات الأمر وذهاب الريح، وقد مضت إلى غير رجعة، ونفتح صفحةً بيضاء ناصعة جديدة، لنكتب فيها معك تاريخ ميلادنا السعيد، ونسطر أول سطر في كتاب تاريخنا الجديد، ونُدَوِّن في هوامشه طموحاتنا وآمالنا وأحلامنا، ونخربش على غلافه رسومنا التخيلية لمستقبلنا المليء بالسعادة والهناء والتفاصيل الجميلة التي تنتظرنا.
أنت هنا يا بن سعيد خالدٌ فينا، وفي رفرفة العلَم الخفّاق وفي الحناجر التي تصدح بالنشيد.
أنت في كل شارع وكل حارة وفي كل بيت، نسمع دعاءك الدائم لعمان “اللهم أجعل هذا الوطن آمناً مُستقِراً وجَنِّبهُ كل مكروه، وأسبغ عليه من عميم خيرك الوفير” يتردد مع أصوات المؤذنين المنادية للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة: (حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على خير العمل)
فنقول بصوتٍ واحدٍ: آمين إلى يوم الدين.