أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب
أحمد الحراصي
مرت 14 سنة إن كانت ذاكرتي لا تخونني، نعم 14 سنة منذ أن مرت هذه العبارة لأول مرة وأنا أقرأها في درس (ثبات النبي صلى الله عليه وسلم)، بمادة التربية الإسلامية، والتي لم أنسها منذ ساعتها إلى اليوم، صرت أستذكرها دائمًا وأرددها تارة،(أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ما أجملها من عبارة وما أدقها وفصاحتها عندما ينطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وسط ميدان غزوة حنين حين تفرق الجمع عنه وبقي وحده شامخا ينادي (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ماذا سيكون موقفك عندما تستمع لقائدك وحده وسط الميدان بعدما كنت مولِّ الإدبار وهو يصول ويجول غير مبالٍ بكثرة العدد وقوة الند، ألن تستنصره؟ ألن تذهب لنجدته حتى ولو كلف ذلك حياتك؟ هل ستُظهِر شجاعتك بعد أن تسمعه يقول هكذا؟ وتثير فيك الحماسة؟ والبطولة؟ دعني أسهل لك الأمر، أظن أنك ستكون قادراً على فعلها عندما تكون خلف قائد كمثل هذا، كمثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ستستنجده لأنك تعرف أنه قائد شجاع ومحنك وجريء، ستستنجده لأنه لو توفيَّ في هذه المعركة ستندب حظك لأنك لم تدافع عنه وستظل نادماً طوال حياتك وربما قد لا تجد بعدها قائداً شجاعاً كالفارس الذي تركته في الميدان ووليت هارباً عنه؛ لأنك باختصار لم تفدِّه بحياتك وهو قائدك الذي عاهدت أنك ستبقى بجانبه وستدافع عنه حتى لو كلف ذلك حياتك لكنك نقضت العهد يوم أن واجهت العدو معه.
هذا ما فعله من كانوا معه آنذاك، رضي الله عنهم جميعاً، حيث ثبت معه من ثبت من قلة، ثم ازداد العدد وكثر وتحولت الهزيمة المبدئية إلى انتصار عظيم سجله القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جزاءُ الْكَافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(التوبة، 25ـ27).
أنا النبي لا كذب؛ أي أنا نبيٌ مرسلٌ من ربه والأنبياء لا يكذبون، يدعو إلى دين الحق والتوحيد، إلى دين الإسلام والسلام، يدعوكم بأمر من ربه، أمرٌ تنزلته الملائكة توحي إليه بما أمر به ربه للناس والجِنّة أجمعين. أنا ابن عبد المطلب، أنا محمدٌ الذي تنسبونه إلى جده عبد المطلب، ولهذا دليل أنه يجوز للشخص أن ينتسب إلى جده أو إلى جد جده، فهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، فكان أشجع الناس ولم يفر في معركة قط، فقد ثبت في كل غزواته التي قادها.
هذه العبارة التي استوقفتني دائماً مذ ذلك اليوم، واتخذت مكان استقرارها بين عقلي وقلبي، لم أعرف عبارة كمثلها بما تتصفه من جمال المعنى وفصاحة المنطق، لا يستطيع أن ينطقها رجلاً يواجه موته أمامه، أمام كمين قد نصب بين أشجار في وادي حنين والذي يبعد عن مكة المكرمة بحوالي 27 كيلو مترا، أي أن العدو أعد العدة وكمَّن المعركة التي سيلتقي فيها الفريقان قبل وصول جيش المسلمين، هوازن وثقيف بقيادة مالك بن عوف النصري، في المقابل مسلمو المدينة مع بعضاً من حديثي الإسلام الذين أسلموا بعد فتح مكة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم أن الكفة لم تكن لصالح المسلمين من البداية ولكن للثقة بالنفس والإيمان بالله عنوان، خاصة وأنت تسير تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، ستكون متأكداً أنك ستنتصر حقاً، وهذا ما فعله المسلمين حيث أعجبتهم كثرتهم فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن هذه الكثرة لا تفيد. ورغم يقين النبي صلى الله عليه وسلم بوجود كمائن خلف الأشجار الكثيرة عن اليمين والشمال التي يمتلئ بها الوادي حيث جيش هوازن يقف عن بعد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه واسمه أنس بن أبي مرثد الغنوي بأن يصعد الجبل بحصانه ليرى إن كانت توجد أية كمائن خلف الأشجار إلا أنه لم يرَ شيئاً. وبعد أن تأكد النبي صلى الله عليه وسلم بعدم وجود كمائن اطمئن وعندها بدأت المعركة، فتقدمت كتيبة بقيادة خالد ابن الوليد سيف الله المسلول إلا أنها فوجئت بوجود كمائن عندما اقتربت من المنحدر، ففزع المسلمون وولوا هرباً من هول المعركة وضراوتها، ولكن ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة ومناداته لهم، أخذت المعركة تجد لها طريقاً آخراً فبدأ العدد يزيد وتحولت الهزيمة إلى انتصار ساحق لصالح المسلمين.
نحن لم نكن معه يوم أن كان في غزوة حنين، لم نكن معه يوم أن فتح مكة، لم نكن معه يوم أن نادى وقال أيها الناس في خطبة حجة الوداع، لم نكن معه يوم أن ثبت في غزوة حنين، يوم أن انهزموا في غزوة أحد وإشاعة مقتله في ميدان المعركة فتفرق من تفرق وبكى من بكى وتركوا أسلحتهم، لكننا وفقط نستشعر وجوده بيننا، بدواخلنا، بقلوبنا، لأنه رسول الله ورسولنا، نبينا وصاحب الخلق العظيم، شفيعنا يوم القيامة، فلا ذلَّ من أعزه، ولا عاش من أذله، فاليوم نرى ما نرى من اتهامات باطلة ورسومات مسيئة وإساءات مهينة لنبينا، فوالله أن الأمر لأشد علينا وأنه لثقيل على كاهلنا، من يسكت لهذه الإهانة إلا من وصل لدرجات الضعف والانهيار، فنحن تغيرنا كثيراً، دولتنا وعزتنا الإسلام ونخوتنا العربية الأصيلة تغيرت، أضعنا كثيراً من إرثنا الإسلامي وإلا من كان ليتصور أن يسكت الإسلام والمسلمين الأوائل عن كهذه إساءة بحق نبينا، لا والله لاحتدمت الصفوف وتقاتلت ولانتصرت سيوف الإسلام وتعلمت دولة الكفر معنى عزة الإسلام، لكن للأسف تغير الأمر كثيراً، ضاقت بنا الأرض بما رحبت وابتلعت دويلات الكفر ما ابتلعت من قدراتنا وإمكاناتنا، خسرنا أنفسنا يوم أن تبدلنا وصرنا نكتفي بإغلاق الباب عن بعضنا والحدود فيما بيننا، لذا انتهت وحدتنا وتراخت فبدأت الأطماع الغربية بأخذ ما يمكنها أخذه من ما تبقى منا.
للأسف أقولها بحرقة أن السكوت عن هكذا إساءات لنبي الله وسيد الإسلام وخاتم النبيين لدلالة كبيرة على ضعف الإسلام، الضعف الذي وصل لنقطة الصفر، فمن كان يظن يوما أن يتقبل المسلم إهانة كهذه ويصمت مقاطعاً منتجات، لا أقول بأنها لا تجدي نفعاً، قد تجدي وقد لا تجدي ولكن ليس هذا هو الحل القوي الذي كنا نتوقعه، كنا نتوقع سحب جميع سفراء الدول العربية والإسلامية من فرنسا، كنا نتوقع إبعاد السفير الفرنسي من جميع الدول العربية والإسلامية، كنا نتوقع إصدار الخطابات الخاصة برفض الإساءة لرسول الله والمطالبة بالاعتذار الرسمي وكنا نتوقع وكنا ولكن أين هي كنا الآن؟، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، أخذنا ننحدر لأضعف الإيمان، كان يجب والويل من كان، كان يجب أن نغيره باليد، اليد التي تبطش يد الأعداء وتنكس راية أعلامهم فتسوَّد وجوه وتبيَّض وجوه، وبذلك نكون قد أخذنا الاعتبار وتصافت لنا القلوب، لكنها أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بقادرين!
فعذراً يا رسول الله أنني وأننا لم نستطع أن نفعل إلا ما استطاعت أيدينا من حيلة لكتابته، عذراً لأنني لم أجد عذراً يليق بمكانتك والرد على من تطاول عليك بحد السيف الذي كان الإسلام يعتز به، السيف الذي إذا انسل من غمده لا يعود إلا بعد أن يتم مهمته، السيف الذي أخاف ملوك الروم والفرس وبيزنطة، فعلنا ما بوسعنا لعلنا ولعل الله يقضي أمراً كان مفعولا، ولكنني على يقين بأن الله سينتصر لنبينا وسيرى الكفار أي منقلب سينقلبون، وستبقى يا رسول عزيزاً وستبقى عبارتك التي أحببتها خالدة في القلب متى ما كانت الحياة باقية وسأقولها معتزاً بأنك (أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب).