2024
Adsense
مقالات صحفية

طفلة في قلب أختي

أسماء بنت جمعة المخينية

في يوم الأربعاء ولدتني أمّي عصراً، وكان في إشراقة كل صباحٍ من كل جمعة تأتي أختي البكر لأبي إلى بيتنا يسبقها طيبها وحنانية صوتها  تذهب لزيارة الأقربين من حارتنا لا تكتف يداها أبداً، تزيح هذا وترتب هذا وترفع ذاك، سريعة في أدائها للأشياء، تبتسم كما أراها الآن في مخيّلتي، هي زوجةٌ لابن عمتي، وأمّاً لي من الحبّ والحنان والعطف، وراعية بلطفها لإخوتي، تحبنا كثيراً ونحبها حباً جمّاً، كلما تحضر تخبرنا عيناها أنها مشتاقة لنا، وعندما تذهب تبقى آثار حنانها كعطرٍ يعبق في كل أجواء بيتنا، ولي حكايةٌ جميلةٌ جداً معها وما زلت أعود لتلك الحكاية، كلما أغضبني أحدٌ أو أخذتُ بخاطري على أحد، فأنا طفلتها المدلّلة وأختها المقربة ولأني دحانة البنات بين أخواتي،  كانت تراني صغيرةً رغم أن ربي رزقني بذرية طيبة.
أختي -رحمة الله عليها- هي فرحة أبي الأولى ورحمة لنا جميعاً، هي الروح النقية التي لا يشبهها أحد، ماذا عساني أن أكتب عن هذه الإنسانة، فهي امرأةٌ عظيمةٌ من سيدات الفاتنة العريقة العيجة الحبيبة، ومن أجمل ذكرياتي معها، إذا قررتْ أمي الغالية ذهابنا لزيارتها أيقظتنا من الصباح وتقوم بتجهيز ملابسي وبمُسمّانا الصوري الباهر دريس وسروال وكمة أي (جلابية قصيرة وبنطلون، أما الكمة فهي غطاء  للرأس وهو خياطة بأيدي صورية متمكنة)  وأنا أقرأ ما أكتب تردّ ابنتي (أماه خنقة)، لم نختنق يا ابنتي ولكنّا كنا أجمل مما أنتنّ عليه اليوم، فكان لكل شيءٍ من تضاريس حياتنا نكهة خاصة لا تُنسى. إن أوّل خطوات زيارتنا لمنشأ أبي هو البطح حيث العبّارة (قارب كبير) والتي تقلنا من دوسة أم قريمتين (مكان انتظار على الشاطئ الآتي من ساحل البطح) إلى دوسة  شاطئ العيجة، ومن لقطات السِّحر في كلا الشاطئين لوحة فنية للمغادرين وتكون من شاطئ البطح وروعة القادمين من شاطئ العيجة، والعيون تراقب العبّارة وهي تتموّج في موج البحر الهادئ، ولله نسائم البحر وأريج روائحه وصفاء مائه إذ تعلوه السفن (اللنجات) وقد مدّت شموخ أشرعتها وعظمة شأنها فوق هام السحب أخوات سمحة والغنجة حكايات باقية وأعلامٌ عاليةٌ يشهدها التاريخ ويُقدسها الزمان، ويترامى إلى أُذني صرخات وقهقهات البحر المنعشة حين  يقفز الشباب من الدوسة إلى البحر وقطرات البحر تتناثر لمن يكون بقربهم، تقترب العبّارة رويداً رويداً ونقترب نحن هويداً هويداً فنصعد العبّارة وتقرع أفئدتنا شيء من الخوف لربما نقع في البحر، وأنا حين أصعد العبّارة أركض إلى أرضيتها مباشرةً ولا أجلس على جوانبها خوفاً من الوقوع، وقت وصول العبّارة إلى شاطئ العيجة برئاسة قبطانها العم خلفان -رحمة الله عليه- تستقبلنا أول إبداعات الخالق عز شأنه في جبالٍ راسيات وكأنها ظلّ أحسبه من كرم الفاتنة في استقبال ضيوفها فنسير قُدماً وأول رموز الفخر تلوح لك بيت السراي الصرح العامر بأهله وجمال كبره وعرضه يخطف الأبصار وتهاجم عيناي الآن الساحة الكبيرة التي أمام بيتهم وبهاء الشمس فيها ومن القريب البعيد يخطفني مسرح الاجتهاد والجهد والجد والقدرة والنشاط، ولعمري إنه لمرسى الهمة والمثابرة والعزيمة والقوة حيث صناعة السفن العمانية الأصيلة، ولي في ذلك نشرة بمقالةٍ خاصة، فذاك منبراً ذرى الحضارة والعمران لا تكفيه كلمات لا تتعدى الألف كلمة.
إن الذكرى لهذا المكان تلوي عنق قلمي، توقظ في دواخلي شوقاً وحنيناً يمضي بي من شهقةٍ إلى أخرى، ويتسلق حنايا كلماتي، ما أعذب تلك الطرقات على هيكل السفينة وما أجمل صوت المنشار ذهاباً وإياباً وما أحلى الألواح متراكبة فوق بعضها البعض والبحر هائماً يبصر حداقة ما يرى فهم معالي الشموخ والهممم، وهم أهل العزائم والقمم، وهم إذا لبّى النداء قالوا نعم ثم نعم. اقترب إلى هذا المكان الباسق الرفيع لأقدم أجلّ سلامي وتحياتي إلى العلم والقائد وربّ العمل اليد البناءة أخي ” سبيت خميس العلوي” أطال الله في عمره ومدّه بالصحة والعافية يا رب العالمين.
وهناك تبصر عيناي على صحون الفطور قد جهزته أختي لزوجها ورفاقه، ثم أنطلق إلى الحيو، الحارة البسيطة التي كانت تقطن فيها أختي قبل انتقالها حارة رأس الميل،  وتستقبلني بحنانٍ كبيرٍ وابتسامةٍ تشقّ وجنيتها.
ما أروع تلك الأيام وما ألطفها، رحمة الله على روحك النقية يا قطعةً من قلبي يا من كنتِ تخصصين عطراً لي وحدي تهدينني إيّاه دائماً وتأتين لي بهدايا متنوعة ولا تنسيني بين بناتكِ أبداً، وأكثر شيء أذكره يا أُختاه شعبانيتي (عادة الاحتفال ١٤ / شعبان) حتى بعد أن رُزقت بذرية، إلا أنك تهمسين لي بأني في عينيك صغيرة مهما بلغت من عُمر، ولي في عصرية الحيو ذكرى خفيفة لطيفة على الروح وهو لعب التراب وخلطه بالماء لإعداد وجبات لذيذة منه خاصة وجبة الغداء وإني لأجد ريحكِ البحري يمرّ عليَّ الآن فما أحلى هواكِ أيتها الفاتنة.
وبعد فترة من الزمن قررتْ أختي وزوجها الانتقال إلى حارة هادئة ألا وهي رأس الميل كما أسلفت سابقاً حيث السكون والهدوء والنظافة الملفتة أمانةً، هناك تخالدني روعة المساء وصفاء السماء والبهاء قرب شاطئ البحر من بيت أختي.
يا الله، ورمسة البحر وضوء القمر وترابه الناعم البارد وظهيرة المغامرة في الذهاب والتمتع ببرودة البحر الجميل والاستحمام فيه ومنظر السفن وهي تعبر البحر قريب المغرب للصيد، والكثير من الجماليات العيجاوية الرائعة، ومهما كتبت فلن أوفّي الوصف يا فاتنة العفية وإن تحدثتُ فسأعجز يا أُختي عن وصف محبتكِ وطيبة قلبكِ ونقاوة معدنكِ، يا من رحلتِ في يوم الأربعاء وبقيتْ ذاكركِ خالدةً في عروق دمي يا رفيقة دعائي واسماً كبيراً جداً جداً في قلبي.
أحبكِ رحمة الله عليكِ.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights