مساحة للغوث
عائشة بنت جمعة الفارسية
فتحتُ عيني رويداً رويداً، بعد ليلةٍ لم يكنْ فيها نومي كعادته، حيث كان هدير السماء على سطح هذا البناء مزعجاً، ومختلفاً عن السابق الذي آنسْته طوال الفترة التي جلستُ فيها مع أحمد كما تناديه أمّه.
فعلى الرغم من بساطته استطاب لي حيث كان يحوي حمالاتٍ مختلفة مقاساتها وأماكن وضعها، بسهولةٍ أضع قدمي عليها دون أن تؤلمني، وجزءٌ من بنائه غير مغطّى، أراقب من خلاله السماء وما فيها.
ولكنّ هذا السقف الجديد على الرغم من اتّساعه ونظافته لم يرُق لي، ولكنّنا حتماً سنألفه في نهاية المَطاف، إلا إذا تغير حالنا، وعسى أن لا يتمّ، فقد أحببتُ أحمد كثيراً لاهتمامه بنا.
ها هو قد حَضرَ، شعرٌ أسود لامعٌ، ويداه الناعمتان ورائحته الزكية ليشرع الأبواب ويفتحها على مصراعيها.
ما إنْ سمعتْ بنات جنسي ذلك الصوت حتى خرجنَ زمرةً واحدةً يكاد جناح كل واحدةٍ يُلامس الأخرى وهممتُ معهنّ.
وقعت عيني على عمود الكهرباء، فنزلت عليه لأنفض ما على ريشي من غبار.
لا تزال السماء ملبّدةً بالغيوم، ولكني أحسبها غير مثقلةٍ بالماء، رفعتُ عنقي ومددت ببصري لأبعد مدى لأرى جمال السماء واتساع الأفق.
فردتُ جناحي، أغمضتُ عيناي وملأتُ رئتاي بالهواء وانتشى ريشي الكثيف المميز على صدري، كنت بحاجةٍ لأقف على شُباك أحمد لأراه إن كان مرتباً قبل أن أحلق، ولكن لا ضَير.
لاحظتُ اقتراب صديقتي ذاتَ الريش الأبيض الجميل الذي يكسو ساقها ويصل إلى حوافرها بل يكاد يخفيها، متسائلةً:
هل يبدو اليوم مناسباً للقيام بالاستكشاف أم سيهطل علينا المطر كما حدث ليلة أمس؟
لن يحدث ذلك، فقد أفرغت السماء ما في جعبتها طوال الليل ولا أرى بوادر لأُخرى.
كانت صديقتي من ذلك الصنف الذي لا يبالي بشيءٍ سوى أن يحقق ما يفكر فيه، ولكنها تتزود بما تريده ولا تُعرِّض نفسها للخطر قدر الإمكان، وأهم ما كان يثقل خاطرها أولئك الذين يتربّصون بنوعها فيجمعونه كمقتنياتٍ ويعرضونها للمشاهدة، وينتقلون بهنّ من مكانٍ لآخَر ولا يستمتعن كما هي الآن بأوقات الاستكشاف التي يمنحنا إياها أحمد.
ما رأيك بصحبتي اليوم؟
سألتني، وهل هناك مكان تفكرين فيه؟ أجبتها:
بالطبع، هيا الحقي بي وسترَين، لا نريد أن نتأخر على العودة.
حلَّقت صديقتي بقوةٍ كمن شدّ سهماً حتى آخره.
لم أتوانَ عن اللحاق بها، فمن ينطلق بهذه القوة ينوي مكاناً بعيداً وتحليقاً آمناً.
تركنا المكان، تكاد الأجواء تخلو من بقية الحَمَام، نظرتُ يميناً، ما زال قفص الحمام الذي بجانبنا لم يُفتح.
لا أدري لماذا؟ ليست من عادتهم.
الحمد لله قد يكون من حُسن حظّي، حتى لا تلاحقني تلك اللئيمة فتنافسني على ما يقع عليه نظري من رزقٍ فأجدها وقد مزّقته وهي ترقبني بازدراءٍ على الرغم من أنها تقضي على الأخضر واليابس في الطُرقات.
الأهمّ الآن، أني صحبتُ هذه الصديقة اليوم ولعلّ في صحبتها الفائدة.
قاطعتْ حبل فكري وهي تصرخ:
شدّي العزم والهمة، فأردفت، أيّ همّةٍ ترقبينها من عجوزٍ أثقلها جسمٌ تعِبٌ من الجلوس على بَيض طوال عمرها، وأكلت لسنين حَباً وقمحاً لم يكن لها يد في اختياره، وعندما جاء الفرج على تقدّم العمر بمصاحبتكِ وهذه الهمة العالية فيكِ، فبالله عليكِ تلطفي بي.
ضحكت صديقتي وحامتْ حولي محاوِلةً التباطؤ حتى نكون معاً.
على الرغم من بُعد المكان لكننا لم نشعر به.
توقفنا عدة مرات لنأكل من أشجار اصطفّت بنظامٍ متّسقٍ تحمل ثماراً ليست بصغيرة، تبدو قاسيةً ولكن ما أن غرستُ منقاري عليها حتى توغّل للداخل، كان ممزوجاً بقليلٍ من الماء لا هو بليّنٍ فيقع من منقاري ولا هو بغضٍّ فيقف في بلعومي.
استسغتُ مذاقه، فهي ليست المرّة الأولى التي أتذوقه بالطبع، ولعلها إحدى المُتَع من خروجنا اليومي.
حطّتْ رِحال صديقتي وأنا بعدها على مكانٍ يعج بالأصوات الجميلة، أتت به الرياح قبل أن أقترب منه.
وضعت قدمي على غصنٍ جافٍّ لشجرةٍ عاليةٍ شبه عارية، أكاد أرى أوراقها على الأرض وقد تكوَّم جزءٌ منها واختلط بالتراب فامتزج ولا يكاد يميّز بينهما.
تذكرتُ ما حدث ليلة أمس، فمن الطبيعي إذن أن أرى ذلك.
كان المكان واسعاً وكبيراً أشبه بالذي نعيش فيه، تملؤه الأشجار متناثرة، تخرج الأصوات من أشجار أخرى يحدّها سياج.
وقع بصري على طيورٍ متنوعة منها ما يشبهنا ومنها ما تعرفتُ عليه في سابق عهدي عندما كنت أحلّق حيث السماء سقفي والأشجار موطني.
هناك من أمثال أحمد وأمّه متوزّعين على تلك الأقفاص لا يهدؤون طول فترة جلوسنا، شعرتُ أنهم كمن يدورون حول أنفسهم ينتقلون من مكانٍ لآخَر، مَن يذهب لا يعود، يضع البعض منهم على رأسه ما يغطّيه، ربما لتقيهم من الشمس وما تحتها من سُحبٍ حتى لا تنهمر عليهم المياه.
لم تكن نظرات صديقتي مثلي كانت تصبّ نظرها صامتةً بلا حِراك إلا من قليل، في زاويةٍ مقابلةٍ للغصن الذي وقفنا عليه وكأنها اعتادت المكان.
أمّا أنا، فلا يهدأ عُنقي من الالتفات، ولم يكفّ منقاري من التنظيف وأنا أمضي جيئةً وذهاباً من غُصنٍ لغصن، لأحدد ملامحاً أطبعها في ذهني لأعود إلى هنا إذا رغبت.
بعد فترةٍ تعالَت أصواتٌ بين مرحّبٍ ومُهلّل، أصواتٌ جميلةٌ تناغمتْ، شدّتني تلك اللمعة في عيون صديقتي، عرفتُ أنّ اتصالاً روحياً ليس من الحِكمة مقاطعته، ولكني وضعت مؤشراتٍ لتبريره تكمُن في خِبرتي وما مضى من عُمري متنقلةً من قفصٍ إلى آخَر، ومن يد صبيٍّ عابثٍ إلى شابٍّ هاوٍ، والأيام بنا وبهم ماضية.
تركتُ صديقتي لبرهةٍ دون أن أخبرها وهي لم تُحسّ بانسحابي حيث ذهبتْ لتجلس قريبةً من ذلك القفص الكبير لتكمل مناجاتها.
وأنا وجدتُ فرصتي لأستنشق هواءً عليلاً مُحمّلاً بالروائح الزكية لمجموعةٍ من الأشجار كانت قريبةً رصدتُها وأنا أحلّق قبل الوصول.
عدتُ إليها، تلاقينا في منتصف الطريق، ميّزتها عن غيرها بريشها الجميل في ساقيها، عجّ المكان بالطيور المتنوعة التي كانت تحوم لتلتقط بواقي الطعام كما فعلتُ.
أثناء العودة كان الطريق طويلاً، بدتْ صديقتي مشغولة البال يكسوها فرحٌ ارتسم على عينيها البارزتين فزادتهما جمالاً، تمتمتُ بكلماتٍ، اقتربتُ منها، سمعتها تقول: ما دمتُ حرّةً غير مقيدةٍ ستكون زيارتي لكم دائمة، ولن تنقطع.
ما أقسى القيد عندما يكون مثقلاً بالعاطفة، وما أجمل السماء عندما لا يحجبها سقف.