ما بين مسقط ونزوى
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
ثمّة مسافتين فاصلتين ما بين مسقط ونزوى؛ إحداهما جغرافية على امتداد الأُفُق، والثانية زمنية؛ حيث امتداد العُمر، وكِلتا المسافتين تؤرّخان للزائر القاطع لها مناخاتٍ من الودّ، والافتتان، والرضا، وتُجبران الذاكرة على حِفظ مجموعة المشاهد المعزّزة لبقاء الودّ، والافتتان والرضى، وتُحفّزان الهِمم لأنْ تبقى النية مّبيتة دائما لسَلك هذه الطريق (الشريان) الواصل بين إحدى نقطتي الانطلاق؛ سواء مِن مسقط، أو من نزوى، فكِلا الحاضرتين لهما مكانة الودّ، والافتتان والرضى.
يأتي هنا ضَرب المَثل بمدينتين كبيرتين تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وتتسلسل على إثرهما مُدن “حاضرة” هي الأخرى على المشهد العماني، هذا المشهد المُفعَم الخصب بهذه المدن الحاضرة بقوةٍ على امتداد الذاكرة العمانية، والحاضرة بقوة المُكوّن الإنساني والمادّي اليوم، كما كانت بالأمس، ومواصلة المَسيرة إلى غد، له مُطلق التمدّد والاستمرار.
تحظى كل المدن العمانية بدءاً من مسندم مروراً بكلّ الحواضر والقُرى؛ وصولاً إلى ظفار، بهذا الودّ، والافتتان والرضى، ولذلك تُيمّم إليها القوافل من هنا أو هناك مستقصية هذه المساحات الجغرافية الآمنة، ومستحضرةً هذا التاريخ الضارب في القِدم، ومكبرة هذا النماء الحضاري المُمتدّ، مع اليقين الدائم أبداً، أنّ هناك ثمّة علاقةً قائمةً بين هذه المدن كلها؛ علاقة الجزء بالكُلّ، وعلاقة العضو بالجسد، وعلاقة الفرد بالُّلحمة، حيث يضمّ كل ذلك حميمية الود، والافتتان والرضى.
تمتدّ زياراتنا كأفرادٍ في هذا الوطن الحبيب إلى كل هذه المدن الحاضرة، وإلى كثيرٍ من القُرى الوادعة، والأودية المُمتدّة، والجبال الشُمّ المتطاولة، وفي كل زيارةٍ تتسلّل الرؤية إلى مشهد للتّو تكتحل به العين، وإنْ كان مسجلاً من قَبل حضوره وتألّقه، ذلك أنّ الرؤية البصرية كثيراً من تتغافلها المَشاهد في لحظة الافتتان الكلّي، ولكنْ سُرعان ما تكتشف أنها تمتثل مشهداً آخَر يمثل أمامها ليسجل تاريخاً جديداً من هذه الرؤية البصرية المفتنة بالكثير من هذه اللوحات الجَمالية التي تنغرس، بقوة جمالها، في النفس، وتسجّل بقاءها الدائم في الذاكرة.
تكتسب المُدن حضورها ليس فقط بما تحتويه من مقوّمات طبيعية، فالطبيعة امتدادٌ أفُقيّ تجِده في أمكنةٍ كثيرة؛ تربطك علاقة بها أو لا ترتبط، وإنما تكتسب هذا الحضور بما تُمليه عليك كزائرٍ بمناخاتٍ طبيعية، وإنسانية، وتاريخية، وتذهب بك بعيداً عندما يقابلك إنسانها بالكثير من اللطف، وبالكثير من القِيم، وبالكثير من الاحتواء، وبالكثير من الأمان، حيث تؤصّل فيكَ كلّ هذه الممارسات: الودّ والافتتان والرضى، فتحرص أنْ تلبث مطيتك عُمراً أطول في البقاء، وأن تُعمّر رؤيتك البصرية زمناً أكثر للافتتان، وأن تعقد نفسك صفقةً رابحةً من الودّ والرضا بالإنسان والمكان؛ حيث يظل الزمان الفاعل أبداً في خضّم هذه العلاقات المتشابكة.
تعيش مُدننا العمانية هذه الصورة في كل تجلياتها الزمانية والمكانية، فإنسانها البسيط – خلقاً ومعنىً -استطاع أن يلتحم بها كلّ هذا العُمر؛ قوةً وجمالاً، وحرص كل هذا العمر أن تبقى مدينته حاضرةً في وجدان الناس، ليس بقوة الأمر، ولا بسلطان الجبَروت، ولكن بجمال الخُلق، وبساطة التعامل، حيث أوجد في الآخَر مساحاتٍ من الأمان، فغدا الآخَر مُسلماً مدّخراته الإنسانية بكل رضىً وودّ، وحمل في المقابل رصيداً جميلاً من صُور الافتتان؛ بالإنسان وبالمكان، فأصبح رسول مودّة تنبعث من الأنفُس من غير استجلاب.
أيتها المدن الحاضرة: سِجلّك ثوباً ناصعاً فلا يتلوّث بفتافيت الحضارة، فالحضارات في لحظة زهوِها ماكرة، فالتحمي مع إنسانك لتبقى الصورة الإنسانية حاضرة، فذلك رهانات بقائكَ للأمام ماضية، فلك في سجلّ التاريخ مآثر خالدة، ولإنسانك النبيل مواقف رائعة