2024
Adsense
قصص وروايات

حديثُ الأربعاء – صباح المدارس

لولوة القلهاتية

في مثل هذا الصباح البعيد في الذاكرة، كانتْ أمي قد بدأتْ معاناتها اليومية مع إيقاظ إخوتي الصغار من النوم وإدخالهم الحمّام العاري من كلّ شيءٍ سِوى سطلٍ كبيرٍ ملأته بالماء الساخن تكيل منه الماء وتصبّه في سطلٍ آخَر يربض على مقربةٍ منه، مملوء إلى منتصفه بماء الصنبور البارد، ثم تتأكّد مِن درجة حرارته المُناسبة لبدء عملية التطهير القَسريّ الصباحيّ اليوميّ بغمس يدها فيه، وحالما يطمئنّ قلبها لحرارته، تبدأ أول ما تبدأ في شطف العيون المغلقة بإحكام، وقد عجز الصغار عن فتحها؛ لأنّ أهدابهم قد تلاصقتْ بإفرازات العين الليلية التي تُسبّبها التهاباتٌ فيروسيةٌ مستوطنة، تنتشر عادةً في مواسم الانقلاب الخريفي والربيعي من كلّ عام.
في أثناء ذلك وعلى وقْع تلك الترنيمة الصباحية المُبكرة المعتادة التي تكون عادةً ريمكس مكوّن مِن بُكاء الصغار وصوت أمّي المهدّئ لهم تارةً والغاضب عليهم تارةً أخرى بنبرته الحادّة التي تشبه وخْز الإبر في حدّتها حينما يشقّ هدوء الغرفة ويلامس طبلة الأُذُن، وصوت الضّرب الخفيف بيدها على ظهورهم إذا ما عجزت عن السيطرة عليهم، والخلفية الصوتية للترنيمة الصباحية تلك هي صوت الماء الذي تنضحه عليهم بالكوب البلاستيكي الكبير ذي المقبض الذي يتعلق عادةً من قبضته على حافّة السطل ويبدو للمُتأمّل في منظره وهو معلّق هناك كأنه قِرد شمبانزي صغير مذعور يتسلق شجرةً عملاقةً خشية الوقوع في مستنقع الماء الذي أغرقت به أمي أرضية الحمام.
مع كل تلك الجلَبة أكون أنا قد أنهيتُ تجهيز نفسي وحملتُ حقيبتي التي عادةً ما أجهزها من الليل وأضعها قرب فراشي وأتحسّسها كلما تقلبتُ ليلاً كأنما كنت أخبّئ فيها كنزاً ما، وهو التصرف الذي لم أجد له تفسيراً حتى الآن، لماذا كنت أحتضن حقيبتي وأتحسّس وجودها قربي كل ليلةٍ يا تُرى؟!🤔

أنسلُّ خارجةً من البيت قبل أن تراني عمتي وتجبرني على تناول الإفطار، وأمضي راكضة خفيفة على دربٍ حجريةٍ تهبط بي إلى حيث المدرسة على صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الصادح الذي يعطر جوّ القرية بالآي الحكيم من مايكرفون المدرسة العتيقة المرابطة ببروزٍ متقدمٍ على شاطئ البحر شبيهةٍ بمنارةٍ تُرشد البحّارة التائهين في عرض البحر، مقارنة بالبيوت والدكاكين الطينية الهزيلة المحيطة بها؛ لأبدأ يوماً دراسياً طويلاً تتوسّطه فسحة أهَروِل فيها إلى دكان أبي متسلّلةً بين التلاميذ المتزاحمين عليه يشترون منه ويشغلونه عني مأجورين مشكورين، أنتهز فرصتي الثمينة وأنتزع مشروبي المفضّل (شاني) من الثلاجة الوحيدة في الدكان مع حمْل ما لذّ لي وطاب من حلويات وبسكويت وأخرج فرحة بغنيمة السكاكر الصغيرة تلك، من غزوتي الموفّقة على دكان أبي؛ لأعود منتشيةً إلى المدرسة.
ينقضي اليوم في المدرسة كما بدأ بجرسٍ يرنّ في الأنحاء وصغارٍ يتراكضون هنا وهناك وصخبٍ محبّب وأمل يكبر في رأسي الصغير مع نهاية كل يوم أقضيه متململة على كرسيّ الصّف بأنْ يأتي الغد ويكون معلم الرياضيات قد مات.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights