صناعة الإنْسان الحضاريّ
د علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
يختلف المتخصّصون في ماهيّة الإنسان الحضاريّ حتى لا يكاد يتّفق الجميع على أوصافٍ مُحدّدة؛ بحيث إذا حازها شخصٌ يمكن أنْ يُطلَق عليه هذا المُسمّى، مع أننا مطالَبون بتحصيل الحضارة، فليست الحضارة هي الافتخار بثقافتنا السابقة، أو الاعتزاز بتراثنا النيّر الموروث، بل هي حلقةٌ متواصلة مِن الرقيّ، وسلسلةٌ تاريخيةٌ لا يجب انقطاعها، فالمجتمع الأمثل هو الذي يعتزّ بحضارته السابقة، ويعمل على إحيائها وتجديدها، ويجعل في كلّ بيتٍ من بيوتنا إنساناً حضارياً يسعى لتكوين حضارة تكون امتداداً لحضاراته السابقة.
لستُ هنا في تحديد ماهيّة هذا الشخص أو ذِكر تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للإنسان الحضاري ومناقشة الأقوال في ذلك، وإنما أحاول ذِكر الصّفات أو الشروط التي يتّصف بها الحضاريون، ولا يمنع مِن ذِكرها أن تكون مُنطبقةً على جميع مَن تعرفهم، أو أن تكون هناك صِفات غيرها يتّصف بها آخَرون، وَهُم في عدادهم، وإنّما هي وجهة نظرٍ لا غير؛ حتى يقترب مصطلح “الإنسان الحضاري” من أذهاننا.
الذي استطعتُ الوصولَ إليه بأنّ الإنسانَ الحضاريّ لا بدّ وأنْ تجتمع فيه أربعة شروط، وبدونها يمتنع أن يُطلق على الشخص بأنّه حضاريّ، وهي:
الأول:
الإلمامُ بتاريخِ الأُمم السابقة، وتطوّرِ الإنسانية، ومعرفةُ مكوّنات الحضارات السابقة؛ لأنّ الإلمام بمكوّنات التاريخ والحضارة يمنح الشخص الوعي الذاتيّ أولاً، كما يزيده قدرةً على فَهم الواقع، فيمتلك معها القوة على صناعة الحضارة، أو تمنحه المعرفة الثقة بنفسه على أقلّ أحواله، ممّا يجعله في ترقّبٍ دائمٍ لتغيير الواقع المحيط به للأفضل.
الثاني:
الإحاطةُ بالأفكار السائدة في مجتمعه، وكيفية نشأة هذه الأفكار، وتمييز صوابها من خطئها، وحسَنها من قبيحها، فمعرفة الأفكار الهادمة تساعد في تكوين وصياغة الشخصية المعتدلة، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن يكون الشخص بعيداً عمّا يُدار في محيط مجتمعه من أفكارٍ وآراء؛ لأنّ الشخص تحرّكه البيئة المحيطة به، شعَر بذلك أم لم يشعُر.
الثالث:
معرفةُ علمٍ من العلوم، والتخصّص فيه مع الإلمام والمشاركة في بقية العلوم، بحيث ما يغيبُ عنه منها أقلّ ممّا يعرفه، فما من حضارةٍ إلا وهي قائمةٌ على العلم.
وللعلومِ قيمةٌ حضاريةٌ واجتماعية، فالأمّة التي ترقد علومها، وتتوقف ثقافتها، سيركد مجتمعها، وتقف حضارتها، ويستحيل تقدّمها، وينعدم تفوّقها على غيرها، والعنايةُ بالشؤون الحياتية العامّة تحتاج إلى التمرّس في العلوم، وتتطلّب تحصيل الثقافة، وبدونِ العلمِ والثقافةِ لم تقمْ حضارةٌ، ولنْ تقوم.
الرابع:
معرفةُ لغةٍ ما من اللغات، وإتقانُها تحدّثاً وكتابةً وقراءة، وخيرُ اللغات التي يعرفها هي لغته الأمّ التي نشأ بها؛ فإذا ضيّعها فهو لغيرها أضيَع، وما زادَ على ذلك مِن معرفةٍ للّغاتِ الأخرى يزيد في تراثه المعرفيّ، وإلمامه الحضاريّ، وأقلّ الواجب أنْ يطالع الشخص الأعمال الغربية المترجمة، فيسدّ بذلك النقص الحاصل من عدم الإلمام بلغاتٍ أخرى، وبمطالعتها تتبيّن له الكثيرُ من الأمورِ الغائبةِ عنه في تكوينِ الشخصياتِ، وإعادةِ الحضارات.
يعدّ الإلمامُ القويّ باللغة شرطاً مهماً من شروط تحصيل الحضارة؛ إذْ لا يمكنُ التفكيرُ المستقيم إلا بمدخرٍ كبيرٍ من المعاني والألفاظ، بل لا يمكنُ لأحدٍ التفكير دونَ استعمالٍ ألفاظٍ، ويختلف الإنسانُ الحضاريّ عن غيره في نظرته الشاملة المتكاملة، فهو لا يقف على الأشياء الإيجابية في مجتمعه فقط، بل يتجاوزها؛ وبذلك يتفوّق على غيره بقدرته الاستيعابية لكلّ ما هو إيجابي من حضارات الشعوب الأخرى؛ ليتلاءم مع رؤيته المجتمعية الحضارية.
وسبق أن كتبتُ في مقالي “ترجمة العلوم العالمية” المنشور بجريدة “الرياض” بتاريخ: 4 يونيو 2020م بأنّه قد لا يتوافق المخزون الغربي الأدبي، ولا تنسجم الأعمال العالمية العلمية في جوانب مع بعض عناصر الثقافة الدينية لنا، لكنّ هذا لا يعدّ مانعاً من الاطلاع على هذه الأعمال أو ترجمتها؛ لأن عناصر التقدم المتناقضة أو المتعارضة مع ثقافتنا يمكن أن تعدّل؛ لتنسجم مع رؤيتنا وقيَمنا واحتياجاتنا.
يصحب الإنسان الحضاريّ طيلة عمره النّبهاء والعُقلاء؛ لأنّهم هم مَن يعتضد بهم، فيختار أكثرهم نُصحاً، وأرجحهم عقلاً، وفي مصاحبة أرباب السوء مضرةٌ عظيمةٌ، وفي الاقترابِ من أهل السوء كثرةُ مهالك، وعادة ما يمثلون الرجل المُصاحب لذوي السوء براكب البحر ذي الأمواج المتلاطمة، فإنْ هو سلِم من الغرق والموت لم يسلم من المحاذير والهموم.
ومع كلّ ما سبق لا يعتمد الإنسان الحضاري على رأيه فقط وينفرد به؛ لأنّه يعلم أنّ الإنسان يبلغ بآراء وأقوال الآخرين ما لا يبلغه برأيه، فالمنفرد برأيه المُعرض عن رأي مَن سِواه وإنْ كان رأيه صحيحاً إلا أنّه لا ناصر له، فيعيش عيشة الضائعين، ومن حكمة الشخص الحضاري أيضاً أن ينشر ويدافع عن رأيه وفكره دون أن يُغضب أحداً في رأيه وفكره، فيكون رائد الجميع الوئام، وغايتهم السلام.