بين إهداء سلام خياط وحسرة وديع فلسطين
د.علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
تميزت الكاتبة المحامية والشاعرة العراقية سلام خياط بجودة كتابتها، وانفردت عن غيرها بقدرتها الفائقة على الإتيان بالجديد المبدع، فجمعت في كتبها ومقالاتها بين الإبداع والأصالة، ولا عجبَ في ذلك، فهي التي مكثت في محراب الكتابة عمراً طويلاً، ومارستها بجميع أنواعها، وقد أكدت منزلتها الفريدة من خلال أسلوبها البياني الناصع، وثقافتها المتعددة.
ليس أدلّ على علوّ مكانتها من كتابها الفريد الحجة في بابه “صناعة الكتابة وأسرار اللغة”، حيث يعدّ هذا الكتاب في صدارة الصدارة من قائمة الكتب المعنية بتحصيل الكتابة، ومن حفاوة المشتغلين بالكتابة أوجب بعض المعتنين ضرورة نظر كلّ مشتغلٍ بالكتابة فيه، وهو حقٌ، بل يجب النظر في كتابها من حينٍ لآخر؛ لأنّ القراءة الواحدة لا تكفي للإحاطة بكلّ ما فيه مِن جوانبَ معرفيةٍ مختلفةٍ.
تحدثت في ثنايا كتابها عن مواضيع شتى، ما بين حديثٍ عن هاجس الكتابة والإبداع إلى تأصيل صناعة الكتابة، وكيفية تأليف الكلام وترتيب الأسلوب، وأهم الخصائص في شخصية الكُتّاب، مع الكلام عن أجناس الكتابة الأدبية، ولم تنسَ الحديثَ عمّا يتعلق بالكتابة من النشر والتسويق، وصرحت في المقدمة بأنّها جمعت مادة كتابها من خمسين مصدراً، وزادت عدد كلماته على مائة ألف كلمة.
كلّ ما في كتابها مشوق ومفيد، والجميل فيه ما كتبته في الإهداء؛ لأنّه يدلل على تاريخ بلدٍ من بلدان الثقافة، فقد كتبت في إهدائها: “إلى أعرق سوقٍ لنفائس الكتب منذ عصر المأمون: سوق السراي ببغداد بعد أنْ غابت عن رفوفه كتب “الحكمة” وعرضها العوام على القارعة بأبخس الأثمان”.
ولا شك أن الإهداء يحمل كثيراً من المعاني، أهمها الندمُ على ذَهَاب أماكن الثقافة، وغيابُ الوعي الكامل بأهميتها، فهي تتحسر على زمنٍ كان الناس مشتغلين فيه بالثقافة ومحتفين بالكتب، لكنهم استبدلوا بيع كتب الحكمة والمعرفة بغيرها، حتى وصل الحال إلى الاكتفاء ببيع الكتب المدرسية، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على الحالة الثقافية الراهنة.
شهد “سوق السراي” في بغدادِ الثقافةِ فيما مضى حركةً معرفيةً هائلة، وتأسستْ فيه كثيرٌ من المكتبات، اختصت بعضها ببيع كتب النوادر الأدبية والمخطوطات العلمية، وكان قبلة للباحثين والدارسين والمثقفين، فكانت تُعقد في مكتباته كثيرٌ من الندوات الثقافية، واشْتَهرت بعض مكتباته في بيع كتب الطب والهندسة وغيرها من العلوم الحديثة، وتراجم الأعمال الأدبية الغربية.
وقريباً من إهداء الأستاذة سلام خياط المحفوف بالأسى حسرة وحزن شيخ الصحفيين المصريين الأستاذ وديع فلسطين على مكتبة الأستاذ الدكتور التربوي أمير بقطر الذي كان مِن رواد التربية وعلم النفس، وهو مؤسس ُ كليةِ التربية، وصاحبُ مدرسةٍ متخصصةٍ في هذا الفن عُرفت بـ”جماعة علم النفس التكاملي”، وتخرج في هذا المجال على مؤلفاته كثيرٌ من التربويين ورواد هذا الفن.
كوّن الدكتور أمير بقطر مكتبة خاصة حافلة بالكتب النفيسة والمؤلفات العزيزة المتخصصة في مجالي التربية وعلم النفس، وكانت مقصد الدارسين والباحثين في هذا الجانب المعرفي، وكان يقيم في شقة قديمة في عمارة سكنية ينتظر أصحابها موته بفارغ الصبر، فلم يكن له وريث، وبعد موته مباشرة تلهف أصحاب المبنى إلى هدم البناء وإقامة عمارةٍ سكنيةٍ جديدة، فأخرجوا متاع بيته في الشارع، وأما مكتبته النفيسة فتلقفتها أيدي بائعي الكتب في سوق الأزبكية بأبخس الأثمان.
عدّد أستاذنا وديع فلسطين أحزانه وأوجاعه حين ترجم للدكتور بقطر -وحُقّ له ذلك- وبالغ في شدة أسفه على ذَهَاب هذه المكتبة النفيسة التي أمضى الدكتور بقطر عمره في جمعها، فقال: “أفجعني أن أرى هذه الكتب متناثرة على السور العتيد -قبل هدمه- تُقلّبها أيدي المماكسين، وتُباع مفرداتها بقروشٍ قليلةٍ، ولو كان هناك رشيدٌ يعرف قيمة هذه المكتبة لأشار بإهدائها إلى إحدى كليات التربية كيما ينتفع بها طلابها وأساتذتها وباحثوها”.
إنّ بين إهداءِ سلام خياط وحسرةِ وديع فلسطين كثيراً من المعاني، فإهداؤها مشوبٌ بحسرة، وحسرته داعيةٌ لأمنية، نستخلص من الإهداء والحسرة أموراً عديدة، أهمها ضرورةُ المحافظة على الكيانات الثقافية في بلداننا، ودعم المكتبات العامة، وتشجيع حركة النشر والتأليف، والاعتناء بالباحثين الجدد ورواد الثقافة، وبات كذلك الالتفاتُ إلى المكتبات الخاصة وحفظها من الضياع أمراً ضرورياً؛ لأنها قبلَ أنْ تكون تراثاً معرفياً يجب الحفاظُ عليه، فهي تراثٌ وطنيٌّ يحكي حضارة الأوطان وجهود المخلصين.