2024
Adsense
مقالات صحفية

بين كفتي الأجر الماديّ والإخلاص الوظيفيّ

د. رضية بنت سليمان الحبسية

إنّ للمنظومة القيمية والقواعد الأخلاقية حاجة ملحة في المجتمع الوظيفي، فهي الموجه للعلاقات الوظيفية التي تؤطر العمل المؤسسي وتنظم سير العمليات الإدارية نحو تحقيق الأهداف التنظيمية بسهولة ويُسر. لذا فإنّ قضية وجود نظام قيمي شامل لكافة جوانب عمل المنظمة أمرًا لا بدّ منه، فالممارسات الإدارية تؤثر إيجابًا أو سلبًا في طبيعة السلوك البشري، وبالمقابل فالسلوك الفردي قابل للتغيّر وفق معطيات الموقف وحيثياته.
ينشأ السلوك التنظيمي في بيئات العمل نتيجة عمليات التفاعل بين مكونات المنظمة ومدخلاتها الأساسية، وبطبيعة الحال فإنّ تلك العمليات تكاد لا تخلو من المعضلات الأخلاقية سواء أكانت سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أو ثقافية. فلكل فرد منظومة أخلاقية يؤمن بها، وتتداخل مع نظم وأخلاقيات العمل، ومن بين تلك الأخلاقيات الإخلاص في العمل. فالإخلاص الوظيفي يتطلب الالتزام بالعمل في إطار الحقوق والواجبات التي تنص عليها بطاقات الوصف الوظيفي لكل وظيفة، والتي تعتبر وثيقة قانونية تنظم العلاقة بين المؤسسة ومنتسبيها. وقد جاء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }. (سورة النساء، الآية: 58).
وعلى ذلك فإنّ التزام الفرد بالسلوك الأخلاقي في أدائه لمسؤولياته الوظيفية بإخلاصٍ وتفانٍ يُعدّ خُلقًا منشودًا ومطلبًا شرعيًّا، والتعامل مع تلك المسؤوليات بجدية وحكمة ورقابة ذاتية دليل نزاهة الموظّف وحبه لعمله. وقد حثَّ النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك بقوله: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)).
ومع ذلك فإنّ مفهوم العمل لدى بعض الموظفين وما يرتبط به من سلوكيات يدعو للتأمل. فكثيرًا ما يتأرجح ذلك السلوك بين كفتي الإخلاص الوظيفي والاستقرار المالي أو الشعور بالمسؤولية مقابل السعّي للترقي الإداري، والتي غالبًا ما تتولد معه صراعات تنظيمية كردة فعل لواقع وظيفي معيّن يتمثل في قلة الالتزام بساعات الدوام الرسمي، أو التهاون في أداء الواجبات الوظيفية. الأمر الذي يتوجب معه تأمل الموظّف لممارساته والتزامه بمسؤولياته تجاه مؤسسته ووطنه، ومراجعة المؤسسات لإجراءاتها وسياساتها التنظيمية، امتثالًا لقول الله -تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }.(سورة الأنفال، الآية:27).
تتطلع العديد من المؤسسات العامة والخاصة إلى تقوية الجانب القيمي والأخلاقي في بيئاتها بصفة عامة، والإخلاص الوظيفي بصفة خاصة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال العديد من الاستراتيجيات، أهمها:
– وجود نظام محدد ومقنن في شغل المناصب القيادية والإدارية، مما يُشعر العاملين معه بالأمان الوظيفي، فيؤدون واجباتهم بنزاهة تامة وثقة بالغة في سياسة وإدارة المؤسسة.
– اعتماد استراتيجية واضحة ومُعلنة في تشجيع وتكريم الموظفين، والتنويع بين أساليبه المادية والمعنوية: كالترقيات، صرف العلاوات الاستثنائية، الترشيح للبرامج التدريبية والتأهيلية، أو المشاركة في المحافل العلمية والمهنية. فذلك مُبرر للعمل الجاد والحراك المثمر من الموظف؛ للحصول على أي من تلك الفرص التحفيزية جرّاء إخلاصه وجدارته.
– العمل بالقدوة، فكلما كان المسؤول المباشر قدوةً في الالتزام الوظيفي، فإنْ حرص الموظفين على الاقتداء بالمسؤول سيكون نتيجة طبيعية، فتتولد لدى الموظف رقابة ذاتية في أدائه لواجباته.
– تطبيق سياسة الباب المفتوح مع الموظفين، عبر قنوات اتصال مقننة والإصغاء إليهم؛ للاستفادة من مبادراتهم التطويرية والفاعلة، الذي يُعدّ مؤشرًا على ولائهم وإخلاصهم للمؤسسة التي ينتمون إليها.
– التزام كافة الأطراف بالقواعد والأنظمة المعمول بها في تسيير العمل، المشاركة الفعلية في إنجاز المهام، واستثمار وقت العمل الرسمي؛ بما يُحقق الجودة المنشودة في أداء الواجبات والمسؤوليات الوظيفية.
– نشر الثقافة القانونية في القضايا الإدارية والتنظيمية، وترقية الوعي بالواجبات والحقوق المهنية وأخلاقيات العمل الوظيفي، سواء ضمن البرامج التأسيسية قبل الخدمة أو من خلال البرامج واللقاءات المهنية أثناء الخدمة.
الخاتمة:
الإخلاص قيمة أخلاقية من قيم العمل الوظيفي التي ينبغي أن تظهر في أداء الموظف لمهامه وواجباته. وهو من القيم الثابتة التي تتجذّر في شخصية الفرد عبر سُبل تربوية سليمة تُزرع فيه. وحيث أنّ الالتزام بأخلاقيات المهنة عنصرًا أساسيًّا في تقييم أداء الموظف السنوي، لذا يقع على عاتق المسؤول المباشر تقييم الموظفين بموضوعية وأمانة والبحث عن فُرص تحفيز الكفاءات منهم؛ ليكون حافزًا لهم مواصلة التمّيز والعطاء بنزاهة واقتدار. ونختتم المقال بقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّـهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّـهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}. (سورة البقرة، الآية: 138-139)

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights