2024
Adsense
مقالات صحفية

عاقبة التطبيع

عبدالله بن حمد الغافري

الحمد لله الذي جعل الحقّ أبلجا وجعل الباطل لجلجا والصلاة والسلام على سيد الثقلين وعلى آله وصحبه المخلصين وعلى كلّ مَن تبِعهم إلى يوم الدين.

(… فَلَا یُنَـٰزِعُنَّكَ فِی ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدࣰى مُّسۡتَقِیمࣲ)
[سورة الحج 67].

يَذكر أهل العلم أنّ القرآن الكريم يحوي قرابة خمسمائة آية في السياسة والقضاء والحُكم؛ لذلك جاء الإسلام ليكون دين عبادة ودين حياة وليس دين مسجد أو جامع.
وفي زماننا تمّت محاربة الإسلام بشكلٍ رهيبٍ وتحت دواعٍ مختلفة أهمها:
_ سقوط الخلافة الإسلامية.
_ تسلط الاستعمار على الأمة العربية والإسلامية.
_ الأطماع العالمية في ثروات العالم العربي والإسلامي.
_ تعميق الهيمنة على بلاد المسلمين خاصة من قِبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
_ الرغبة في حيازة السلطة من قِبل العديد من الأنظمة العربية ولو على حساب الإسلام ورسالته ورغماً عن أتباعه.

_ رغبة العالم الغربي في التخلص من الجالية اليهودية وتهجيرهم نحو وطن مزعوم في الأرض العربية.

_ بقاء هاجس الحملات الصليبية وفرض الهيمنة الثقافية على البلدان العربية.

وهناك أسباب أخرى عديدة.

وقد تمخّض عن هذا كله زرع الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين السليبة وإرغام الدويلات العربية على الاعتراف بها.

وفي واقع الأمر فإنّ التعامُل السياسي في الشريعة الإسلامية لا يُحرّم التعامل مع غير المسلمين بل ينظمه ويؤطّره بأطُر وقوانين تحفظ للمسلمين حقوقهم وتؤكّد على مبدأ التعايش بين الأمم؛ ولكنّ هذا التعايش مَشروط بالعزّة لأمّة الإسلام والظهور والعلوّ لدين الإسلام الحق.

لذلك وجدنا أنّ جميع آيات القضاء والتحاكُم ذكرتْ ذلك بين (الناس) وليس المسلمين أو المؤمنين وحدهم، وذلك لتعُمّ مظلة عدالة الإسلام جميع مَن يقَعون تحت حُكم الخِلافة الإسلامية الراشدة.
وينبغي التفريق بين مفهوم التعايش والسلام مع الأمم وبين موقف الأمة مِن المُحتلّ المغتصِب للأرض، المُحارِب الذي لا يرقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة.

لقد عاش اليهود مشتّتين في بقاع الأرض بعد أنْ حرّم الله عليهم الأرض بسبب عصيانهم لأنبيائهم وجحودهم للآيات البيّنات التي رأوها بأمّ أعينهم كغرق فرعون وقذف عِجل السامري.

ومع عِلم العرب والمسلمين بخبايا اليهود ودسائسهم إلا أنهم سمحوا لهم أن يعيشوا بكرامة في بلاد العرب والمسلمين ونالوا نفس الحقوق المدنية التي يحظى بها الإنسان العربي المسلم.
ووجد اليهود المعاملة الحسنة والحقوق كاملة في بلاد الإسلام وبين المسلمين ما لم يجدوه عند غيرهم.

ولكنْ وبعد أنْ تحقّقتْ مؤامرة احتلال فلسطين وتمّ التمكين لليهود من قُطبَي الاستعمار في ذلك الزمان (بريطانيا وفرنسا) وذلك بعد أن تمّ الإجهاز على الخلافة الإسلامية في اسطنبول وما أعقبها مِن مآسٍ وآلام إلا أنّ الحقوق لا تضيع بالتقادم وإنّ حبل الكذب قصير ولا يبني قواعد على جُرفٍ هارٍ أبداً.

وفي زماننا وبعد أن تمّ تضييع الأوقات في مفاوضاتٍ عقيمة لم تكنْ لها نتيجة سوى مزيداً من الاحتلال ونهب الأرض مع إطالة الوقت وتدويخ رؤوس الناس في لعبة تباطؤية لاستغلال عامل الزمن.
وجَدنا مَن يُهرول نحو ما يُسمّى بالتطبيع مع هذه الدولة الجاثمة على الحقّ العربي والإسلامي في المقدسات الإسلامية والأرض الفلسطينية المحتلة وكأنما كل المشكلات حُلّت ولم يبقَ سوى التطبيع وفتح السفارات.

التطبيع كمفهومٍ يُعتبر خطأً سياسياً وخطأً اصطلاحياً وخطأً شرعياً.
نحنُ لسنا خبراء في السياسة ولا بمُجرياتها ولا بمضضها ومرارتها ولا بمكتسباتها وثمارها للعارفين بها؛ ولكنّ الذي نعرفه أنّ أصل السياسة هو تسيير الأمور بما يحفظ حقوق الرعية ويعدِل بينهم في الحقوق والواجبات وبما يحافظ على أرض الوطن من العبث وبما يحفظ للناس فكرهم ومُعتقدهم ويحفظ لهم كرامتهم ويحميهم مِن الأخطار المعادية التي قد تُحيط بهم؛ لذلك كلّه فإنّ التعامل مع القوى الخارجية في المجتمع الدولي يجب أنْ يُقاس بما أوجبه الله تعالى علينا تجاه الغير وموقف هذا الغير مِنا ومِن شريعتنا ومِن وجودنا كما ينبغي أن تُقاس بما يقوم عليه المجتمع مِن فِكر وعقيدة، وتُقاس كذلك بمقدار الأخطار التي قد تضرّ بالأوطان جرّاء هذه العلاقة؛ فالتطبيع مع كيانٍ لا يعترف بحقوق الغير بلْ رمى بعرض الحائط بكلّ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وراء ظهره؛ بل لديه الفِكر التوسعي، فهو يتعامل مع العرب بمقتضى حرب وجود لا حرب حدود.
فمن الذي يضمن تأدُّب هذا الطرف مع المجتمعات المسالمة التي تنأى بنفسها عن هذه المخاطر.
فإذا لم تقُم العلاقة على مبدأ الندّ بالندّ وحِفظ الحقوق وعدم التدخل في شؤون الغير فلا قيمة لهكذا علاقة لأنها ستكون كمَن جنى على نفسه ولمْ يحسب للعواقب حساباً.
وكَون التطبيع خطأً اصطلاحياً فالأصل فيه اتفاق أو معاهدة أو أية تسمية لعلاقات بينيّة بين الدول. وليس تطبيعاً يقلب الموازين ويحوّل الحقّ باطلاً والباطل حقاً فيتحول المغتصِب القاتل الظالم بين عشية وضحاها إلى صديقٍ وَدود (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون).

وهو _أي التطبيع_ خطأٌ شرعيّ وذلك لمناقضته لكلّ الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والقصص القرآنية التي تُبيّن مَدى تلوّن هذا العدو وإمعانه في الخلافات وحِرصِه الدائم على إثارة الفِتن وإشعال الحروب بين المجتمعات المختلفة فكيف بين عشية وضحاها يتمّ تغطية كل ذلك وكأنّ شيئاً لم يكنْ؟.

لذلك فللتطبيع عواقب ومآلات لا يعلمها إلا الله تعالى؛ لكن نذكُر أهمها:

١. ردّ لأحكام القرآن الكريم المحذرة من شرّهم.
٢. تكذيبٌ لِما أنزله الله من بيان غدرهم بالله وبرسله.
٣. مُخالفة للسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية القاضية بوجوب إبعادهم وعدم موالاتهم.

٤. الاستخفاف بخطر عداوتهم وأنهم يعتبروننا أُميّين وأنّ أموالنا ودماءنا وأعراضنا حلال لهم _كما يزعمون ويعتقدون_ كفانا الله شرهم ووقانا غدرهم.

٥. عدم تعلّم التجربة التي مرّ بها غيرنا وما ذاقه المطبّعون مِن وَيلات شرورهم فقد انهارت اقتصادات تلك الدول وأصبحت أقرب إلى الفقر.

٦. التطبيع يعني الاعتراف بأنّ أرض فلسطين لهم بينما هي وقف للمسلمين.

٧. التطبيع تفريطٌ بالمسجد الأقصى والمقدّسات.

٨. التطبيع خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.

٩. التطبيع تعطيل لأحكام الجهاد في الإسلام والقبول بالهَوان.

١٠. التطبيع يعني نسيان كلّ الدّماء التي أُريقت والأرواح التي أُزهِقت والأموال التي نُهبت والبشر الذين تمّ تشريدهم وتصفيتهم بشكلٍ عنصري.

١١. التطبيع يعني أنّ المطبّعين سيكونون حُرّاساً لليهود وأعداءً لله ولرسوله ولشعوبهم، وأنّ عدم القيام بذلك يُعطي اليهود الذريعة للسيطرة على الدولة المطبّعة وتخريبها واحتلالها.

١٢. الدولة الصهيونية لا حدود لها وهم يَرون أنّ ممالك العرب حقّ لليهود فما لم ينالوه بقوة السلاح فسيأخذونه بالمعاهدات الكاذبة والخداع والتضليل.

١٣. كل من يوالي القوم المخالفين لأوامر الله والمعاندين لرسُله والمستكبرين على عباد الله فقد برِئتْ منه ذمّة الله تعالى ورسوله والمؤمنين ووقَع تحت طائلة وَعيد الله سبحانه في قوله (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا).

١٤. التطبيع خروج على الإجماع العربي وكَسر لميثاق الدفاع المشترك في جامعة الدول العربية.

١٥. يُعدّ التطبيع اختراقاً أمنياً كبيراً يفتح للعدو الدخول إلى المجتمع العربي وسيعرفون مفاصِل الدولة ومعرفة جوانب القوّة والضعف في كافة المجالات، وبالتالي يمكنهم تنفيذ أجندات ومكائد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فهل ستقوى المؤسسات الأمنية للدولة لمتابعة كلّ تحركاتهم؟ وإذا ضغطوا باتجاه تعديل القوانين على النّسق الذي يُمكّنهم من مُرادهم فمن سيدفعهم أو يقف في وجههم؟ وكما قال المثل العماني:
(لا تجيب الدب على زرعك).

اللهم احفظ لنا أموالنا وأوطاننا وأهلينا وذرارينا وكلّ ما آتيتنا، اللهم انصرنا على أعدائنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا، اللهم حَصّنا بحصنك واجعلنا في حرزك ولا تُشمت بنا أحدا.
اللهم اجعل وطننا عمان بلداً آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights