بِناء الأمّة
د. محمد سعيد بن خليل المجاهد
محاضر بجامعة السلطان قابوس- كلية التربية
مِما لا شكّ فيه عِند عُلماء الاجتماع والطبّ وغيرهم أنّ قُدرات البَشر متفاوتة، ورغباتهم في تقلّد شتّى الأعمال في الحياة العامّة مُتنوعة، وهذا إنْ دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على حِكمة الخالقﷻ؛ إذْ لو جُعل الأفراد في أمّة ما تَنحو باتجاه عَمل معيّن؛ إذنْ لتوقّفت الحياة، فكما أنّ الأُمم تحتاج إلى الأطبّاء والمهندسين والمعلمين، فإنها بالقَدْر نفسه تحتاج إلى مَن ينهض بأعباء الأعمال المُختلفة المتنوّعة الموجودة في حياة الشعوب والأفراد.
ومِن هُنا نُدرك حقيقة ما يُسمّى بوجوب تلبية المجتمع لكلّ احتياجاته بنفسه دون أنْ تكون لديه الحاجة للاستعانة بغيره مِن المجتمعات إلا في حدودٍ ضيّقةٍ ولأزمنةٍ محدودة، ولذا جَعل الإسلام قيام أبناء الأمّة بتقلّد جميع الأعمال التي يحتاجون إليها مِن فروض الكِفايات.
فيجب أنْ يكون في الأمّة العدد الكافي مِن الأطبّاء والمهندسين والمعلمين وغيرهم مِن أصحاب الكفاءات العلمية، كما يجب أنْ يكون فيها الحِرفِيّون مِن النجّارين والحدّادين والمُزارعين وغيرهم مِن أصحاب الحِرَف، دون أنْ ننسى الأعمال الخدمية البسيطة التي يتوجّب على أبناء الأمّة تحصيل الاكتفاء الذاتي فيها.
وهذا لا يعني أنّ أصحاب الكفاءات العلمية همْ أعلى أفراد المجتمع قدرًا وشأوًا، وأنّ غيرهم في الدرجة السُّفلى، بل الجميع يَحظى بالحقوق نفسها، وله الاحترام الكامل؛ لأنه يؤدّي واجبًا تِجاه الأمّة؛ قال الله تعالى” إنَّ أكرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ”، بل جعل الباريﷻ الآخرة خافضةً رافعةً؛ فقالﷻ: “ليس لِوَقْعَتِها كاذبةٌ خافضةٌ رافعةٌ”.
بعدَ هذا، يَحسُن بِنا أنْ نبيَّن أهمية تَوجّه أفراد الأمّة إلى القِيام بجميع الأعباء الواجبة عليهم، كلٌّ يختار الوجهة التي يرغب بها والتي تتناسب مع قُدراته ورغباته؛ ليتحقق الاكتفاء في الأمّة على جميع الصُعد، وفي شتى المجالات.
وهذا الأمر يوجب على أصحاب المنابِر على اختلافها، سواء أكانت منابر دعوية، أو إعلامية، أو غير ذلك، تهيئة المناخ المناسب لأفراد الأمّة؛ ليختار كلٌّ العملَ الذي يرغب به ويحقّق الفائدة العامّة والخاصة، وذلك باتّباع ما يأتي:
1. عَقد الندوات، والدروس، وخُطب الجمعة التي تبيّن أهميّة اختيار الفرد للعمل المتناسب مع قدراته ورغباته.
2. التركيز على أهمية جميع الأعمال في المجتمع، وأنّ صاحبها مُكرَّم بِغضّ النظر عن تلك الحِرفة أو الخدمة.
3. توجيه الأمّة إلى ضرورة احترام جميع أصحاب المِهن والحِرف والأعمال؛ إذ فيها استقلالية الأمة واعتمادها على ذاتها.
4. ضرورة تربية الناشئة على أهمية الاختيار المتناسب مع مُيولهم ورغباتهم، لا مع ما يَنظر إليه الناس على أنه الأرفع، ولو تتبّعنا أغنى أغنياء العالم في عصرنا الحاضر لرأينا بأنّ غِناهم لا يتناسب طردًا مع تحصيلهم العِلميّ وشهاداتهم الجامعية.
5. لا يعني كلّ هذا التقليل مِن أهمية العِلم وشأنه، فكيف يكون ذلك، وإنّ أوّل آية نزلتْ مِن قرآننا الكريم:
” اقرأ”، بل لا علاقة بين اختيار كلّ فرد للعمل الذي يرغب به ويشعر أنه يُتقنه ويَبرع فيه وبين أهمية العِلم وتحصيله لِجميع أفراد الأمّة.
إنّ الأمّة التي تَربّي أبناءها على الاختيار الصحيح للوجهة التي يرغبون بها في حياتهم العملية هي الأمّة التي تتحقق فيها الكفاءة الذاتية لجميع الأعمال، كما أنها في الوقت نفسه الأمّة القادرة على مواجهة المصاعِب المُختلفة على مرّ العُصور والدّهور؛ لأنّ ذلك سينقله الآباء إلى الأبناء، وسيتكرّر فيهم، وهي الأمّة التي تَجد كلّ فرد فيها يَخرج إلى عَمَله بِهمّة عالية، وعزيمة ثابتة، ورؤية ثاقبة، وطُموح واسع في تحقيق الجديد والمُفيد.
ولكننا عندما نَعكس الأمور، ونوجِّه أبناء الأمّة إلى اختيار وظائف قليلة تقتصر على سَدّ حاجة المجتمع إلى الكفاءات العلمية، وذلك عن طريق الثّناء على هذه الوظائف وذمِّ غيرها، وعدمِ الاكتراث بها؛ فإنّ هذا الوضع سَيخلق في الأمّة الحاجة إلى مَن يَسدّ باقي الوظائف مِن الحِرف والأعمال الخدمية، وسيجعل مِن بعض أبناء الأمّة عِبئًا على الوظائف التي تَقلّدوها دون أنْ تكون لديهم أدنى رغبة بِها، مِما سيجعلنا نرى الطبيب الفاشل، والمهندس الحَيران، والمعلّم المُتبرّم بالطلاب، إلخ.
إنه نداء إلى ضمير الأمّة، إلى العُقلاء فيها أنْ يَضَعوا الخطط لتصحيح المَسار قَبل فَوات الأوان.
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.