رهينة الليلة ال ١٤
منال السيد حسن
عزيزي الذي كان؛ اعتقدت بأن حديثا بيننا لا ينقطع .. روحي التي كنت أصنفك صديقا لها على أقل تقدير.
هذا الوقت من الليل تحديدا والذي دائما ما كنت أكتب لك فيه .. وما كنت لأرغب بأن أدنسه بمنغصات تعكر صفو الود الذي كنت أأنس به في عدم وجودك .. الوقت الذي كنت أقتات فيه من رصيد البهجة التي خلفتها في لأكون بخير .. ولكن يا عزيزي إنها الوحشة.
هجرتني بهجتي وأردتني وحيدة .. حتى دعتني أتساءل عن جميع احتمالات الأحداث في عدم وجودك -عدم وجودك الذي أصنفه وحشا كاسرا- .. كأنني بيروت الحزينة أبكي في غياب بهجتك على أطلال مرفأي.
أمشي في حدود غرفتي التي لم يشعلها جمال قبلك حافيةَ القدمين .. تماديت عدة مراتٍ واحتضنتك وأنا خائفة .. وأنا التي قد وهمت نفسي بأنه لا يوجد من أخاف معه أفضل من سواك.
عناكب الوحشة تنسج عشها حولي وفي كل مرة كنت أرى ابتسامتك ولو خيالا كانت تتلاشى أنسجتها وكنت أراك متسعا ومرقدا.
لم أكتب لشخصٍ ما من قبل هكذا حرف .. كل ما كنت عليه كان أكثر من الإفراط أعلم ولكنه كان حقيقيا جدا .. كنت أعلم أنك تمل أحيانا ولكن ما ذنب روحي إن كانت تحيا بهذا الضي في بسمتك وجمال قريحتك؟!!
أتعلم؛ طوال علاقتي بك أرسلت لي هذا الإيموجي  ثلاث مرات وفي كل مرة كنت أعلم جيدا أنك تعنيه حين ترسله .. ترقبت كل مرة فيهن وجلست أعيد النظر إليه مرات ومرات وأغمض عيني لأستشعر ضمتك .. يا عزيزي بين ذراعيك كنت أستشعر جزء رحمة الله في الأرض .. وعلى كتفك إنسانية العالم جله .. وفي ابتسامتك الحياة كلها.
يا عزيزي -ولم يكن لي عزيز يشبهك- .. أنا أقاتل نفسي كل يوم ليراني الجميع صلبة كعادتي .. ولكني أقسم أني هشة من الداخل .. لا أعلم كيف لأحدٍ يجعلني أبوح بضعفي هكذا!!!
عزيزي؛ أنا أكتب إليك لأراك؛ في كل بضع من الوقت يتبدل فيه حال الأرض وتنجرف عن مسارها درجة؛ أشعر بهزة في صدري تؤججه خشية أن أموت دون رؤيتك .. فأكتب إليك كأنني أخاطبك بكل ما لا أجرؤ على قوله وجها لوجه.
أكتب لأخبرك أن العالم كان يصير أجمل حين تبتسم.
لقد نجوت من كل حروبي الصغيرة .. وغيابك ليس تشببه حرب وأنا وحدي كالمحارب القديم .. عبء ثقيل لا يروم أن يخمد.
أكتب إليك ليعم السلام صدري.
أكتب لأخبرك أن وقت راحتي -الذي لا أسميه فراغا أبدا- صرت أفكر فيه كيف أجعل العالم من حولي يشبهك .. كي أراه بك أو ربما أراك فيه.
لا أستطيع الامتناع عن التفكير بك .. وغيابك الذي لا أقدر عليه يقتلني .. تذبحني تفاصيل صغيرة بيننا -لم تحدث بعد- هي الدليل على علو مكانتك والشاهد على هدوئي واستقراري النفسيْ.
لم أكن أعلم أن إفراطي في إحساسي بالأمان إلى هذا الحد معك؛ يجعلك تصل إلى هذا الحد من القسوة معي!!
هل كان علي أن أخفي عنك شعوري كي تبقى إلى جواري؟!!
أخشى أني سوف أقضي عمري بأكمله أتذكر كيف كنت أرش على أحزان قلبك شيئا من السكر؟
أو كيف أنني كنت أتلذذ بري أحلامٍ صغار في روحك؟
أو كيف أنني لا زلت أعتبر ابتسامتك بهجة القلب ومراده؟
وأخشى على نفسي افتفارها دونك .. أخشى ألا تتماثل للشفاء إلا بك .. ألا يروي ظمأها إلاك .. وإن ذبلت وإن ماتت.
أعتقد أني أخسر كثيرا .. أخسر عندما أعتقد أن كل التفاصيل الصغيرة التي لم تحدث بيننا لا زالت على قيد الحلم الكبير .. حلم التحقق .. أشعر بأن ثمة فراشات صغيرة رغم أنها ماتت بصدري إلا أن أجنحتها لا زالت ترفرف بروحي .. أخسر عندما أتلاقى مع أحدهم وأراك فيه فأخفض بصري خجلا وخيبة.
أخسر عندما أزور البحر حيث أراك .. وأرجو ألا أراك لأجد بصماتك كمحراث يشق صدر الأرض.
أخسر عندما أقف في الشارع المؤدي لبيتك .. أُسرق حينها من نفسي .. أجاهد للوقوف والمشي .. إلا أني أتسمر في مكاني وأنظر بخوف لأُسرق مني مجددا ولا أعود .. رعشة تسري داخلي .. تنتفض بي وكأنها تريد أن تثبت أنك تسري داخلي أبدا.
أخسر حينما أنتظر حديثا لطيفا بيننا رغم أنه انقطع كل حديث بين روحي وروحك .. هل مللت مني حد أن تجعل من الخريف حجة لتغيب؟!
انظر؛ هنا في قلبي بقعة كانت مضيئة بك .. فلماذا حل الظلام بها؟!! .. أعدك أني سأكون على قيد رغبتك في البعد وشرطي الوحيد لذلك؛ أن تعيد ما تبقى مني كله .. ململما أشلائي الصغيرة المتناثرة في كل مكان أوجدت لنا ذكرى به -وإن لم يحدث بعد-.
في الحقيقة أنا فتاة سخيفة .. لم أتأقلم يوما على العيش والقسوة .. لم يسبق لي أن صرخت في وجه أحدهم قائلة أكرهك .. لم أستطع أن أرد أحدا طلب يد العون .. بل كنت أفرط في فرض معونتي لهم .. كنت أفرح بقلب عصفور صغير كيف أن غيري استطاع أن يجتاز شيئا ما .. لم أستطع النوم يوما وهناك شعور ما بالذنب تجاه أحدهم .. أتصل لأقول له لا تؤاخذني -وإن لم أكن قد أخطأت- دائما ما كنت أمرر من المواقف الكثير والكثير من أجل بقاء الود وأقول لعلها المنجية .. لم أقدر على تحمل حزن من تسببوا بحزني يوما أو أياما أو أكثر .. كنت أهرع إليهم بكل ود ولطف ودون كلفة .. على أمل أن غشاوة على صدرهم ستزول .. وتزول .. يفرحون هم ويتسببون بتعاستي مجددا .. من فرط سخافتي أحببت الجميع بطهر الملائكة.
اعتدت أن أرسمك في الليالي السوداء الحالكة قمرا .. والآن الندم يصرخ في أذني باستمرار ..
ولكني أتساءل ما فائدة الندم في حالة كهذه؟
لقد تعبت من كثرة المرات التي حاولت أن أثبت فيها أنني على قيد الحياة .. صدري مكدس بحكايات الجميع التي كانت تروى لأني أستطيع حلها .. بصماتهم جميعا عالقة هناك .. كل الأدوار التي قمت بها لأجعلهم على قيد الحياة .. كانت تخترق ذاتي وتجعلني هشة تجاه مقاومة حزني ومشاكلي التي لا أستطيع حلها.
كثيرا ما كنت أخاف اليوم الذي يأتي أتوجع فيه عندما تدار إلى جواري أغنية كنت أهديتني إياها .. كنت أفرط كثيرا في حلمي ألا يحدث ما أخافه .. كنت أحرض نفسي المتعبة على التفاؤل.. ولكن على ما يبدو أن كل سرائري اللعينة باتت حقيقية .. بل أكثر من ذلك.
كنت فقط ودائما عالقة بين قوسين رغبتك .. أنتظر بفارغ الألم والهزيمة والحسرة شارة أمانك .. أختبئ في عملي بين الأوراق .. أحلق بشدة في شاشة جهاز الحاسوب كي لا تنزل دموعي .. أنهار من الداخل .. أدخل إلى دورة المياه لأبكي .. لأفرغ ما في جعبتي كي أظل مبتسمة إلى الجميع .. يتصل بي أحدهم .. أقاوم وأنا أضغط على زر الرد وأنا مرتبكة خشية انهياري .. أغلق .. أحملق مجددا في شاشة هاتفي وأتنقل بين مجموعات العمل وبين هاتف العمل تارة هنا وتارة هناك .. عل الثقل الملقى على كاهلي يهدأ أو يستكين .. ولا شيء أكثر معاناة من ذلك!!!
أهرب إلى البحر وأنا على شفا حفرة من الموت حية .. أنظر إليه مجددا لأراك .. تتلاطم أمواجه في صدري .. كنت أمسك بيدي كوبا ساخنا جدا من القهوة .. وحين قررت احتساءه على غفلة مني انسكبت قطراتها الساخنة بداخل صدري وشكلت ياللأسف والغرابة حرقا سخيفا على شكل قلب كأنه يبرهن على احتراقه بالداخل .. من فرط الألمين لم أستطع الاقتراب .. تركتني أذوب فيهما وأنا أبكي .. جثوت على ركبتي وصدري يؤلمني بشدة .. أبكي من فرط ما بداخلي .. ومجددا السؤال الأقسى “لماذا يا الله؟” ليس اعتراضا ولكن لجوءا لرحمتك!! .. ناداني أحدهم ماذا بكِ؟ هل أنتِ بخير .. هل تحتاجين لمساعدة؟ لم أستطع الرد .. بقيت أبكي بشدة وأصرخ في صمت .. أنادي يا الله .. رحمة بقلب عبدك الضرير .. رحمة بقلب عبدك الذي يبرهن له الآخرون كل يوم على سذاجته وجهله وغباءه.
حسرة في داخلي تنهش في عظامي وأوردتي ..
ورغم هذا كله وفي هذه الليلة تحديدا؛ قررت مجددا أن أكتب لك .. غدا سيكتمل القمر بدرا في سمائه .. القمر الذي اتخذ قلوبنا سابقا سماء له والآن يبقيني بدره كل شهرٍ رهينة لقائي بك .. اللقاء الأول!!
ذاك اللقاء الذي أحيا بقلبي قلبي .. رُغم أنه الآن يبرهن لي على أن كل شخص يعرف طريقا إلى قلبي يوما سأموت بسببه.
شرارات عجز تشتعل على غير رغبة مني .. وكنت الوحيد الذي أفضي بعجزي إليه .. في أية دوامة الآن أنا غارقة؟!! مآساة عظيمة حلت بي.
جررت كل أحزاني ومتاعبي وجئتك حافية القدمين .. كنت أمشي داخل صدرك ببطء أتحسس مواطن الرحمة به .. كنت أتلمس نقاط شفائي بقوة وأبتسم .. أقول هنا موضعي .. والآن صرت أخاف النظر إلى الجانب الشاغر من سريري .. أتجنب مواجهته .. أخشى عليه من دموعي .. تُرى كم نشتعل حين يصير الوطن مقبرة؟!!
تُرى كم تحترق حين تموت عصافير بصدرك .. حين تصير أعشاشها بهوا خاو يتردد فيه صوتك كشبح لا يهدأ أو ينام.
الرافعي يقول “ولا سمو للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانًا فأجللته وأكبرته.”
هكذا أجللتك وأكبرتك .. إنسان رأيته إنسانا .. عصف بي حزني وألمي .. يدوران كانا في رأسي مثل أسطوانة مشروخة .. ظنتتك إنسانا حين وضعتك في موضع الرحمة .. نقطة التقائي والصبر .. ظنتتك إنسانا حين عشت أرفضهم جميها لأختارك أنت!!!
والآن .. أنا أحاول جاهدة أن أجتازك .. أجتازك لا أنتصر على ما كان بداخلي لك .. النصر في شيء ما هو بدعة طفولية.
ولكن لا زال كل ما بك عالق بي .. هنا في هذا الموضع تحديدا .. تلك البقعة التي تقاوم في محاولة منها للحياة .. والبكاء يخترق مسامات جلدي .. خيبة أمل ترافقني ولا تروم الذهاب .. لقد هزمت وأنا أحاول حبس عاصفتي وثورتي .. وعلى قدر صلابتي؛ هذه المرة هزمت .. لن يستوعب أحد كم ما بذلت من جهد في محاولة لتخطي ذلك .. ولم أستطع!! .. وليتني أستطيع.