لسنا أجسادا افتراضية
أحمد بن سالم الفلاحي
تفرض التقنية سطوتها كأهم محدد لمختلف الاشتغالات الإنسانية، ولمختلف العلاقات الإنسانية. ووسط هذه “الحمى” التكنولوجية التي تجتاح كل شيء في حياتنا، بدأنا حقا نحس بوطأتها، وبتأثيرها ليس فقط على مختلف أدواتنا التي تسير بها حيواتنا اليومية، ولكن على مختلف علاقاتنا التي يفترض أن تكون إنسانية بالدرجة الأساس، ولذا يأتي هذا الهاجس المؤلم في وخزه من أثر ضياع أهم شيء فيه، وهو هذه الحميمية المتموضعة على كل أنشطتنا الإنسانية قبل عهد قريب، إلى أن أصبحت اليوم شيئا من الذكرى التي تختزنها الذاكرة كصور متخيلة فقط، ليس من اليسير أن نراها على الواقع المعاش، وليس من اليسير تبني فكرة إحيائها من جديد، فما ذهب فقد ذهب، وما قد بقي منها هو قريب إلى الصور الـ “مشوهة” كالمتشبث ببيت العنكبوت.
معلوم أن الحياة لن تقبل الثبات، وكل ما كان من الثوابت التي آمنت بها الأجيال في زمن ما؛ أضحت اليوم شيئا من الذكرى، لأن كل جيل يأتي بما يؤمن به وبما يناسب واقعه، وحالته الإنفعالية التي يرى فيها كيانه .. شخصياته ووجوده، وبغير ذلك يعيدنا دائما نحو الصراع المفتعل بين الأجيال، وأراه مفتعلا لأنه بالقدر الذي يرى فيه كبار السن أنه من الضروري التشبث بما هم عليه؛ ففيه البقاء على الهوية، والاستمرار على التفرد والتميز، فكذا الحال بالنسبة للأجيال الشابة؛ ترى أن من حقها أن تقاتل على منجزها الإنساني، وأن ترى نفسها فيه، لأنه عنوانها الحقيقي، وليس ما يؤمن به الكبار فقط، وكما قيل: “لكل عصر دولة رجال” وكما قيل أيضا: “خلقوا في غير عصركم”، والخطورة لا تكمن فقط في المادة المتداولة وحقيقة تطورها، وارتقائها مرتقًا بعيدا يكاد يتجاوز الفهم المتوارث عند كبار السن، ولكن الخطورة تكمن في هذه المادة “الإنسانية” وتحولها من مادة معنوية تتوغل في النفوس، فتحدث أثرًا معنويا كبيرا غير مرئي على الواقع، ولكن تأثيرها يهز كل ثوابت الواقع، ويربك كل القناعات التي يؤمن بها الناس في لحظة ما، وبالتالي متى تحولت هذه المادة من تركيبتها المعنوية البحتة إلى عنصر مادي آخر، فإن في ذلك خطورة كبيرة على الإنسانية نفسها ككيانات وجدت لأجل إعمار الأرض وجمالية الكون.
وفي هذه اللحظة بالذات ليس أمامنا فرصة للإنكار، فجميع مشاريعنا الإنسانية أصبحت افتراضية؛ فصباحاتنا ومساءاتنا افتراضية، وتهانينا ومواساتنا وأفراحنا وأحزاننا أصبحت افتراضية، وعلاقاتنا صغيرها وكبيرها، أهميتها وهلاميتها أصبحت افتراضية، شراؤنا وبيعنا أصبح افتراضيا، محادثاتنا واجتماعاتنا واتفاقاتنا واختلافاتنا أصبحت افتراضية، ميلادنا وعلاجنا وتمارضنا أصبح افتراضيا، تواصلنا وافتراقنا أصبح افتراضيا، وربما قريبا يصبح نومنا واستيقاظنا افتراضيا، ولا يستبعد أن يكون غذاؤنا وإمساكنا في يوم من الأيام افتراضيا، فالفهم الافتراضي بدأ خياليا، واستوحت أفكاره من الخيال العلمي، وها هو اليوم يصبح حقيقة ماثلة أمامنا، فكل ما هو يستوحى من الخيال في يوم من الأيام يصبح في اليوم التالي واقعا صادما، حيث تتشكل الحياة بناء على متطلباته واستحقاقاته، وليس أمام هذا الإنسان الصانع لهذا الخيال إلا أن يجني ما اقترفه فكره، وما وظفته على الواقع – بعد ذلك- يداه.
نعم؛ لسنا أجسادا افتراضية حتى هذه اللحظة .. حيث يلمس بعضنا بعضا؛ ولذلك نحارب لأجل بقائنا ككائنات حية -حيث نعيش معتركا صعبا ليس يسيرا ولا سهلا- هويتها إنسانية، مادتها روح نابضة يقلقها هذا التحول التقني الرهيب والسريع الذي يجد مساحته الآمنة بين أنفس الأجيال الشابة، والتي ترى هي الأخرى هويتها فيه، ومشروعها القادم من خلاله (فهل إلى مرد من سبيل؟).