القرار السياسي ومصير الأمة
عبدالله بن حمد الغافري
منذ أن بدأنا نسمع الأخبار ونتابع النشرات حول اجتماعات القادة العرب ولا زالت العبارة المقدسة التي يتم ترديدها في كل اجتماع (تمر المنطقة بمنعطفٍ خطير!!) ولا زالت هذه العبارة تتردد في كل الاجتماعات العربية ولو بين دولتين! ومنذ الثمانينات ولا زال هذا المنعطف الخطير يتم ذكره .. ولكن توقفت الاجتماعات العربية في السنوات الأخيرة ولا ندري ما السبب، هل حصل انزلاق أو تدهور في هذا المنعطف الخطير أم أن الأمة بأكملها انزلقت ولم تنتبه له؟ ولكن هذا كله لا يخرج عن أمور نحن كنا أولى بإيجاد الحلول لها ومعالجتها.
كما أن حياة الأمة ومصيرها والأحداث التي تمر بها والمنعطفات الخطيرة التي تعترضها مرتبطة كليا بقرارها السياسي وبواقعها الاجتماعي ومرتبطة كذلك بمدى إدراكها لمصالحها الاستراتيجية.
كما أن حجر الزاوية في ذلك كله هو مدى تشبثها بفكرها واحترامها لعقيدتها ونهج نبيها الكريم ودينها القويم في تحقيق القوة والعزة للمجتمع الإسلامي الكبير ولعباد الله أجمعين وفق منهج رصين وحكم أمين يأخذ بكل أسباب القوة والمنعة ويحفظ بيضة الإسلام ويحمي حوزة المسلمين والمجتمع القويم.
وفي هذا الصدد أصبح لزاما على كل الأنظمة السياسية في البلاد العربية أن تستمع لصوت الشعب الحر ولفكر العقلاء والمفكرين والعلماء منهم، وأن تأخذ بآراء المصلحين المخلصين لأوطانهم وأمتهم وأن لا يكون القرار المصيري فرديا أو ارتجاليا أو وفق نظرة مستوردة من خارج الحدود أو ممن لم ينزل للشارع المسلم ولم يدرك مواقف العامة ولم يقدر مشاعر الناس وأحاسيسهم أو لم تكن لديه دراية بمقتضيات أحكام الإسلام وأخلاق المسلمين.
كما ينبغي أن لا تغيب عن خلد صاحب القرار السياسي المقدسات المادية أو المعنوية عند المسلمين .. فلا قانون ولا نظام يحق له المساس بما قدّسه الله سبحانه وبما أوجب الحفاظ عليه أو مما جعله أمانة في أعناق المسلمين، أو مما بذلت فيه الشعوب والأمم جهدها بل وأراقت دماءها في سبيل الحفاظ عليه وعلى قدسيته.
إن القرار السياسي هو المنعطف الخطير الذي يغير بوصلة التاريخ .. ولذلك وجب أن تتشارك كل الأمة فيه حتى تتحمل مسؤوليته مجتمعة أيضًا ولذلك شرّع الله سبحانه وتعالى لعباده الشورى فقال: (وأمرهم شورى بينهم) تكون شورى حقيقية وَليست صورية ديكورية لا تسمح بالرأي الآخر.
ونحن كأمة عمانية اتخذنا منهجنا في الحياة منذ الأزل بفضل الله تعالى فمنذ أن استقر العمانيون في أرضهم وتشبثوا بوطنهم عملوا بكل جهدهم لتحريره من كل غاصب .. وما معركة (سلّوت) إلا واحدة من منعطفات التاريخ العظيمة التي أكدت الوجود العماني وبقيت المملكة العمانية غرة على جبين الدهر حتى خاطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خاطب من الملوك والرؤساء والقياصرة للدخول في الإسلام .. فكان القرار السياسي التاريخي للصحابيين الجليلين عبد وجيفر ملكي عمان رضي الله عنهما في قبول الإسلام حتى صارت مملكة عمان مسلمة في كافة أقاليمها دون استثناء.
وعندما حلت الفتنة بالأمة العربية المسلمة باستشهاد الخليفة الراشد علي كرم الله وجهه كان لعمان موقف يشابه موقف ابنيّ الحواري الزبير بن العوام (مصعب وعبدالله) في عدم قبول الظلم أو عدم قبول هدم الخلافة الراشدة وهكذا تبقى عمان عصية على كل سفاح ومستكبر سواء أكان الحجاج وسيده ابن مروان أم كان السفاح العباسي الذي بقر البطون ونبش القبور وذبح أقرب المقربين إليه.
عمان المباركة وشعبها الكريم عاشوا الدهر كراما أعزة لا يقبلون الضيم ولا يرتضون الباطل ولا يمالئون في الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. واستمرت خلافتهم الراشدة قرونا متطاولة بأئمتهم -رحمهم الله تعالى- وسلاطينهم رغم مرورها بفترات ضعف وانكسار إلا أن الحق يعلو ولا يعلى عليه .. وإن كان من ضعف أصابنا فما هو إلا نتيجة قرار سياسي غير مدروس!!
فنحن لا زلنا نتجرع سم (اتفاق كاننج ١٨٦١) الذي فرضه المستعمر على وطننا ليفصل جناحيه الأفريقي والآسيوي عن بعضهما!! وما النتيجة التي وصلنا إليها عندما ضرب الاستعمار بيده الحديدية على قرارنا السياسي إلا حصار لعمان دام مدة تزيد عن قرن وقتل عنصري لأهلنا في زنجبار وسلب أراضينا في الإمبراطورية الشاسعة التي كانت لنا حتى يبعد هذا المستعمر اليد العمانية من أن تقاسمه ثروة أو تنافسه في مغنم.
ولا زالت سلبيات كل قرار سياسي تم استبعاد الشعب فيه عن قول كلمة الحق ما زالت تخيم بآثارها الوخيمة علينا حتى أصبحنا لا حيلة لنا إلا التغني بالماضي التليد .. ولم تترك لنا فرصة لصناعة غد مجيد بما ألبسته يد المستعمر علينا وعلى أرضنا وأمتنا من تفتيت وتقسيم ما أنزل الله به من سلطان!!
واليوم ونحن نعيش على ما تبقى من أوطاننا ومن حرياتنا لا بد أن تكون لنا من ماضينا عبرة وعظة وأن نلتفت إلى أنفسنا وإلى مصالحنا وأن لا نبيع ما تبقى لنا من مجد يحفظ ماء وجوهنا لا نبيعه لعدو لم يسجل له التاريخ موقفا واحدا في احترام اتفاق أو تنفيذ عهود أو التزام بميثاق.
وإن كان من السنة عقد صلح أو غيره فإنما ذلك مرده إلى أن يكون موقف الأمة فيه من القوة والمنعة ما يجعلها قادرة على مواجة التبعات (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِیَانَةࣰ فَٱنۢبِذۡ إِلَیۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَاۤءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡخَاۤئنِینَ)
[سورة الأنفال 58] لا أن تكون مجرد تابع لا حيلة له ولا قوة.
إن القرار السياسي الصائب هو ما يجعلنا بعيدين عن الصلة بدولة لا تقيم للنظام الدولي اعتبارا ويكفي هذه الأنظمة احتراما أن لا يكون لنا عليهم شيء وأن لا يطالبوننا بشيء فمجرد ابتعادنا عنهم هو مكسب لهم لأننا لم نطالب بحقوقنا في ما اغتصبوه فالحياد مغنم لهم وليس لنا.
إن حق كل أمة أن تحيا بكرامة وعزة تعتني بأوطانها وتحافظ على شعوبها وتوفر لهم لقمة العيش الكريم وتعينهم على الانتفاع بخيرات أرضهم وحماية ثقافتهم والانتصار لدينهم
لذلك وجب العمل على الاستقلال الاقتصادي والتفرد النقدي وصك نقود ذهبية لا علاقة لها بالبنك الدولي كما أن علينا استغلال ثرواتنا في إقامة مشاريع قومية منتجة تُثمّر الأرض وتستغل طاقات الشباب وتضمن الاستقلالية في كل شيء وأن يكون قرارنا السياسي هو الذي يجنبنا كل منعطف ويحمينا من كل خطر ويكتب الله تعالى لنا به عز الدنيا وثواب الآخرة والنصر والتمكين على كل من تسول له نفسه المساس بعمان وعزتها وشرفها وتراث أجدادها ومنجزات شبابها وعيشها الكريم.
اللهم إنا نستودعك أنفسنا وأموالنا وأوطاننا وأهلينا وذراريتنا وكل ما آتيتنا .. اللهم إنا نستودعك عمان المباركة وأرضها الطيبة وعيشنا الكريم ما أبقيتنا.
اللهم احفظ سلطاننا المعظم هيثم وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين.
وتحيا عمان حرة كريمة ويحيا كل عماني غيور عزيزًا مهابًا غنيًا سعيدًا.