التي حادَثَتْني “الجزء الأول”
خميس بن محسن البادي
تلقيتُ ذاتَ مساءٍ اتصالاً مِن امرأةٍ بَدا مِن صوتِها أنها شابّة، وبعدَ السلام سألَتْني: أأنتَ فلانٌ؟ فأجبتُها بالإيجاب، فاسترسَلتْ في الحديث قائلةً بأنّ صديقة لها أرشدَتها إلَيّ، فطلبتُ منها عرضَ مُبتغاها فأعلمتْني بأنها تعرضتْ لحادثة وترغب في سَردها علَيّ لأكتُبها للنّشر لتكون عِبرة لِبناتِ جِنسها، فحاولتُ التّنصُّل مِما حادثَتْني لأجْلهِ لاعتباراتٍ تخُصُّني شخصياً، لكنها طلبتْ أنْ أُحقّق لَها مطلبها وأملها بأنْ لا أرُدّها خائبة وقد قصدَتْني شخصياً، فوافقتُها على طلبِها وراحتْ مِن فورِها تشرحُ قِصّتها عبر الهاتف، فوجدتُ أنّ الأمَر قدْ يطول مِمّا لهُ مِن العِبء على كِلينا، فإلى جانب كونها امرأة فهناك خُصوصيات تَحُول دونَ إمكانية اللّقاء بها، والتي من بينها بُعد المسافة فهي تقطنُ كما عرفتُ منها بولاية تبعُد عنّي بما يُقارب الثلاثمائة من الكيلو مترات، ولِذلك اتفقتُ معها أنْ تكتُب حِكايتها مِن خلال عناوينَ عريضة وتُرسلها لي تِباعاً عبر وسيلة الاتصال التي اتفقنا بالتراسل عليها، لِصياغتها بعدَ ذلك بالطريقة التي ننشدها جميعاً مِن وراء القصْد والغاية، مُتفقاً معها بكِتمان بياناتها الشخصية ومُشترطاً ضرورة أخذ موافقة والدها في ذلك والذي عليه أنْ يُحادثني للتأكيد، وعند هذه النقطة انتهت المحادثة.
وحيث أكَّد لي والدها لاحقاً عدم مُمانعتهِ مِما سعَتْ إليهِ ابنته معي، فقد بدأَتْ تصِلني مِنها الأسطُر العريضة لِقصّتها تِباعاً، فشرعتُ في تنظيم سَردِ أحداثِ القصة كما ستأتي تالياً، مع اعتذاري مُقدّماً للإخوة والأخوات القُرّاء الكِرام، فرغم الاختصار إلّا أنُه قد يكون ثَمّة إسهاب في السَّرد وذلك لأجل إيضاح مدى تمَلّق وصبر تلك الفئة من البشر بغية وصولهم لأهدافهم من ضحاياهم، -وإليكم الأحداث- كما قالت الفتاة:
إنها شابّة تصغُر أخاً لها بِعدة سنوات بدأ مُنذ ستة أعوامٍ دراسة الطبّ البشري في إحدى جامعات ألمانيا الاتحادية، بينما أكملتْ هيَ لتوّها الثانية والعشرين سنة من عمرها وأنها ما تزال طالبة بجامعة السلطان قابوس، ومنذ ولادتها وفَّرَ لها والدَيها مختَلف المُقتنيات والكماليات وصُنوفاً من الأطعمة والمشروبات، وتلقّتْ تعليمها الأساسي بإحدى المدارس الخاصّة التي تُعَدّ من المدارس المتقدمة في مجال التعليم وبرامجه المتطوّرة، وحين بلغتْ سنّ العاشرة من عُمرها توفّر لها استخدام الشبكة العالمية للمعلومات وفق تقنياتها المُتوفرة آنذاك، والتي سُرعان ما تطوّرتْ إلى ما هي عليه اليوم، وبمُضيّ العُمر بِها إلى دون إتمامها السابعة عشرة وجدتْ نفْسها قد اجتازتْ عُنق الزجاجة بجُهد شاقّ وبأقلّ الخسائر، بعدما استغلّها أحدهم في وقتٍ فقدتْ هيَ فيهِ حضنَ والدَيها رغمَ تجانُس وانسجام العلاقة بينهم، حيثُ وفي سانحة فراغها ومن خلال وسائل الاتصال المتاحة لديها تعرّفتْ على أحدهم الذي بدأ اتصاله بها فأخذَ يُلاطفها في القول ويُسمعها منهُ أحسنهُ وأعذبهُ وأرقّه، وكان يعِدُها (وهماً) بما يجب أن يكون عليه كلّ عاشقان قبل ودون أن يتدنّس شرف أيّ منهما تحت ذريعة الغرام الذي لا يقبله على نفسه كما لا يرضاه لغيره- كما زعم لها- مُضيفاً بأنه ليسَ مِن الذين يتلاعبون بمشاعر الفتيات بلْ هو من أشدّ الذين ينبذون مثل هذه الأفعال الشائنة، مؤكِداً لها أنّ الزواج هو الحصن الحصين لكليهما الذي لا بد وأن يكون في القريب العاجل ومن غير تأجيل أو تسويف، واستمرّ يكيل لها المواعظ المقرونة ببعض الآيات القرآنية وجوانب من الأحاديث النبوية الشريفة وفي الوقت ذاته لمْ ينسَ أن يُعرّج بين الموعظة والأخرى إلى العَذْبِ من كلام العِشق والغرام والحُبّ والهيام مُدغدِغاً بخُبثٍ ودهاءٍ ماكِرَيْن مَسْمَعها بقولهِ المحرّك للعواطف، ثمّ يعود ليحثّها على التمسُّك بالصلاة والذِّكْر الربّاني وأنْ يكون القرآن الكريم رفيقها الدائم عِوَضاً عن وسائل الترفيهِ الأُخرى التي لا طائل مفيد منها.
لم يكنْ ذلكم الواعِظ المسْتَتر في عجَلةٍ مِن أمْره مع هذه الشابّة الغضّة -حينها- والذي كُلّما سألَتْهُ عن سبب تأخُّره عن محادثتها أو كيف قضى يومَه، كان جوابه لها إمّا أنّه يؤدّي بعض النوافل تقرُّباً لله تعالى أو يتدارس مع نفسه كتاب الله أو قيامَه بأداء بعض أعمال الخير هنا وهناك، فقد أعدَّ طبخته معها على نار هادئة مُغشياً ذاته بغشاء النّقاوَة والعِفّة والطّهارة والصّدق والأمانة، واستمرّ في خداعهِ لها ونيته العَفِنة الخبيثة حتى تمكّن من استمالة الفتاة التي ما زالتْ زهرةً نديّةً طرية، بدأتْ كفرخٍ يخرج للتَّو مِن محميتهِ للكَون الواسع الرّحب بما يحمله هذا الكَون مِن أحوالٍ وأهوالٍ مُختلَطة بين ما هو خيرٌ وصالحٌ وما هو شرٌّ وطالح.
وحيثُ تمكَّن هذا الكائن من الفتاة الغضّة دون أن تَخبر أو تسبر شيئاً من أسرار وأغوار الحياة بعدْ، وفي وقتٍ تجَلّى فيه أن والدَيها أخذتْهما عنها متطلبات الحياة ومشاغل الدنيا، ربّما غير مدركَيْن بما قدْ تتعرّض لهُ فتاتهما من المُنغّصات أو هُما قد تجاهلا ذلك عن غير قصد، وقد وفّرا لها وسائل الاتصال والترفيه المتعددة، وتركاها تهيمُ وحيدة معها على سجِيتها دون توجيهٍ وإرشاد حتى وقعَتْ في شَرَك واعِظها، الذي ظهَر على خفايا حقيقته البغيضة بعد أنْ أحكمَ فَخَّه القذر الخبيث حولها، ومع ديمومة الاتصال بينهما أرسل لها صورةً شخصيةً لشابّ وسيم مشفوعة باسم شخص ادَّعى أنها صورته واسْمُه، ومؤكِداً بأنه أرسلها إليها لكي تعلم هوية الشخص الذي ستقترن به قريباً، وبعد مُضيّ بضعة أيام طلب إليها هو الآخر اسمها وصورةً شخصية لها ليحتفظ بها لديهِ لكي يتذكرها ويتأمّلها في كُل لحظة وحين، لا سِيّما وقت انقطاع الاتصال بينهما، وحتى يعرف مَن هي زوجة مستقبله التي ستُشاركه حياته المتبقية، هكذا علّل لها سبب طلبه للصورة والاسم والذي يبدو أنه يُمَهّد مِن خلاله لطلباتٍ أُخرى، مُبرراً لها أنه أرسل هو صورته واسمه إليها لثقتِه بها ومُغلِّفاً هذا التبرير ببعض كلماته المعسولة الخادعة.
أرسلت له الفتاة صورةً محتشمةً لوجهِها وقد أرفقتْ بِها اسمَها كاملاً، وما إن تَسلّمها إلّا وأخذَ يتغنّى بجمالها ويُثني على حُسْنها ويَدّعي لها تضرّعهُ للخالق جَلّ في عُلاه أنْ وهبَها لهُ لتكون قريناً مستقبلياً لهُ في حياته الدنيا ليسكنَ إليها وتسكن إليه مُضمّناً تمَلّقه الذي أرسله إليها، الآية (189) من سورة الأعراف بقوله تعالى{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين}.
آنَسَ الفتاة ذلك ودغدغَ أحاسيسها وحرّك عواطفها وزادَ مِن تعلّقها بواعظها، ثمّ عَرّج إلى سؤالها عن شؤونها الخاصة وأسرتها، ومنها عرَف كامل تفاصيل حياتها بما لديها وأهلها من المُقتنيات ووظيفة كُلّ مِن والدَيها وأخيها المُبتعث طالب الطبّ في الخارج وبذلك أضحتْ أمامَه كتاباً مفتوحاً.
ودامَ اتصالهما ببعضهما بصفةٍ شِبْه مُستمرة يتبادلا همسات الحُبّ والغرام الزائفة التي يُضفي هو عليها همساتٍ أُخرى وعْظية لِطمأنةِ ضحيّته التي بدأتْ تقع فِعلاً في فخّه، إلى أنْ طلبَ منها ذات يومٍ طلباً يُعتبر خارجاً عن نِطاق الأدَب والمألوف بذريعة وعْده الواهي لها (بالزواج المشروع) مُدّعياً بأنّ الزوجين لا حياء بينهما بِناءً على الرابط المُقدّس وهو العقد الشرعي للزواج، فقدْ طلب صورةً جِسمانيةً لَها وهي بِلابسها الداخليّ فقط، مُرجِّحاً طلبهُ القبيح هذا بِعُذر اعتيادهِ على طريقة التعايُش مع حياتهما الزوجية المُقبلة، فعارضت الفتاة طلبَهُ وأكّدتْ لَهُ بأنّها تخجل مِنَ الإقدام على هذا الفِعل، وَرَجَتْهُ أنْ يعذرها مِنْ ذلك حتى يوم زواجهما -كما ظَنتْ هي بعفويتها- لكنهُ أرْعَدَ وأبرقَ و زمجَر وأزبدَ مُؤكّداً لها بأنّ رفْضَها يُؤكّد لهُ يقيناً أنّها لا تُبادله ذوات الأحاسيس والمشاعر وإنما طوال تلك المدة تتلاعبُ بعواطفهِ ومشاعرِه، وأخذَ يَكيل لها قَول المَسكنة عن ذاته وكيف سَتؤول حالهُ بَعدَ خِداعها لهُ وهو الذي آنسَ نفسهُ لِحصوله عليها كزوجٍ مستقبليّ له، واستمَرّ في مسكنتهِ ودغدغة أحاسيسها الطريّة حتى قَبِلتْ ذلك بعدَ وقتٍ مِن الحديث المُطوّل بينهما، قبلتْ على أمل وعودِه لها ووعظهِ المُستمرّ الذي تستّرَ به على مَسمعها مُستغلاً حَداثة سِنّها الحَرِجة لمثلِ هذه العلاقات الخطرة الموقوتة….. (يتّْبع في الجزء الثاني).