جاري الذي انتقل
حمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
توصف المدن؛ غالبا؛ بأنها أمكنة لا تؤمن بالقيم كمبادئ، ولا تؤمن بتوظيفها إلا ما ندر، وهذه الندرة عادة تكون في مواقف التنظير؛ لا أكثر؛ لأن المدن قائمة على فهم السوق (الربح والخسارة) وما يخرج عن هذا الفهم لا يكون له موضع قدم فيها، ومن يحاول؛ ربما سيتعب، أو يعيش معزولا، مع أنها بين سككها الضيقة حارات هي الأقرب الى القرى المتناثرة، وفي القرية تقترب القيم أكثر، ويعاد ترتيب تشتتها، كما هو الفهم الشائع، ولو أن الأمر في واقعه اليوم، غير ذلك تماما، حيث تتعانق القرى مع بعضها لتشكل حزم من مدن مشوهة، وفي هذ المدن المشوهة – لا هي الى المدينة أقرب؛ والى القرية أبعد – تضيع مجموعة المفاهيم، حيث يعيد كثير من الناس توظيف المفاهيم المنسلة خلسة من المدن الحقيقية، محاولة منهم للدخول التدريجي إلى معترك التمدن، ويتحملون في ذلك الكثير.
المدن أمكنة جبارة، ومخيفة في مواقف معينة، وقوانينها صعبة المراس، ومن لم يكن “مديني” بطبعه فإنه سيواجه منزلقات لم يكن يعيها، وهو يهم إلى الولوج من أحد أبوابها، وبالتالي فهو أمام أمرين “أحلاهما مر”، فإما أن يستسلم لإغراءات المدينة، وهي كثيرة، ومفاهيمها متعددة، ويتحمل تبعات ما تفرضه عليه المدينة من قوانين وأنظمة، وإما أن يتراجع بهدوء، ويعود إلى قرويته البسيطة ليعيش بساطته التي يود، ويبقى من الصعوبة بمكان أن يجمع معيشة الاثنتين، وإلا سيعيش طوال سنوات عمره، صورة مشوهة؛ تعيدنا إلى قصة الغراب الذي حاول تقليد الحمامة في مشيتها، فلا هو استطاع أن يتقن مشية الحمامة، ولا هو استطاع أن يعود كما هي سيرة حاضنة الغربان التي ولد في محيطها، مع أن المدينة بصورتها الاحتفالية تظل مغرية دائما، ولذلك تتساقط عليها الأنفس، كما “تداعى الأكلة إلى قصعتها”.
اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ تتقارب المدن أكثر، وتتزاحم في تلبية متطلبات ساكنيها، وليست عندها مشكلة “نزع ملكيات الانتماء من القرى” من ساكنيها الـ “هيابين” أو المتخوفين قليلا من الزج بأنفسهم في دروب المدن؛ ومساراتها الواسعة، فقط تتطلب شيئا واحدا من هؤلاء السكان، وهي الجرأة والمغامرة، والأخذ بزمام المبادرة، ومتى تحققت هذه الشروط عند أي قروي آت سوف لن يجد نفسه إلا وهو يصول ويجول في خضم المدينة المهيبة بمفاهيمها المادية والمعنوية إلى حد سواء، وحقيقة أرى من وجهة نظر شخصية، مع أنني لم أتماه حتى الآن، على الرغم من معيشتي الطويلة في المدينة، في هذا المفهوم المعقد، ربما لأنني لم أزر مدنا كثيرة في العالم، أو ربما لأنني مشدود أكثر إلى القرية، ولذلك تراني أتهيب مفهوم المدينة، وأرى خطواتي قصيرة نحو الولوج إلى خضمها بصورة مرتبكة، مع أنني أعرف شبابا في عمري؛ توغلوا بعمق في هذا الفهم؛ وكانوا أكثر شجاعة وجرأة، ولا أعرف عنهم الكثير اليوم لأستطيع تقييم تجربتهم.
يأتي العنوان هنا، ليحمل دلالات كثيرة، ليس فقط في فجائية انتقال جارك إلى مكان بعيد دون أن تعرف، ولكن حتى في معرفة هذا الجار، المعرفة الحقيقية، ولذلك لا تستغرب – وأنت المتخضب بقيم القرية – عندما تكون في إحدى أحياء مدينة ما، فتسأل عن فلان من الناس، فلا يستطيع أحد أن يدلك عليه، لأن هذا هو ديدن المدن لا تعترف بترابطات الأشياء، فكل ما فيها هيلمان بنفسه، وليس فقط أفرادها يفتقدون ترابطات علاقاتهم، فحتى أحيائها الصغيرة تعيش معزولة عن بعضها، فالمدن تسقط مفاهيمها المعقدة على كل مكوناتها الكبيرة منها والصغيرة.